من يعرقل الإصلاح في العالم العربي؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

نحن دائمو الشكوى والمطالبة بالإصلاح في العالم العربي، دون أن يتحقق هذا الإصلاح، هذا هو ما ذهبت إليه في مقال السابق. والظاهرة محزنة ومخيفة، وسوف أحاول في هذا المقال أن أبحث عن تفسير لها.

أعرف أن التفسيرات المحتملة كثيرة، تتراوح بين لوم الغير ولوم النفس، أي بين إلقاء المسؤولية على عوامل خارج إرادتنا، وعوامل تعود إلى أعمالنا، ولكني سأبدأ بشيء قد نتفق جميعا عليه، وهو أننا كثيراً ما نعهد بمهمة الإصلاح إلى غير المؤهلين له، سواء لضعف قدرتهم عليه أو ضعف رغبتهم فيه، فتكون النتيجة بالطبع هي عدم تحقق الإصلاح واستمرار الناس في الشكوى.

قد نتفق على هذا، ولكن حتى هذا يحتاج إلى تفسير، وقد سمعت كثرة تزعم أن السبب هو أنه ليس لدينا إلا حفنة صغيرة للغاية من هؤلاء القادرين على الإصلاح والراغبين فيه، فلا عجب أن يتولى الأمر غير المؤهلين له، وهذا التفسير أرفضه رفضاً تاماً، وأعتبره بالغ السخافة، ليس لأني أريد أن يبرئنا من العيوب، ولكن لأني لا أجد هذا من عيوبنا، بل ولعله ليس من عيوب أي شعب آخر.

أوجه الإصلاح المطلوبة كثيرة وواضحة وضوح الشمس، ووسائل الإصلاح ليست عصية على النحو الذي يتصوره كثيرون. نعم، الإصلاح يحتاج إلى رؤية، أي عدم قصر النظر على جانب من جوانب الخلل المطلوب إصلاحه دون غيره، بل النظر إليه في علاقاته المتعددة بجوانب الحياة الأخرى، ومن ثم وضع ترتيب للأولويات يأخذ في الاعتبار هذه العلاقات المتعددة.

هذه الرؤية المطلوبة لا تحتاج إلى العلم بمقدار ما تحتاج إلى حكمة. والمتعلمون كثيرون، ولكن الحكمة أيضاً متوفرة فينا، ما أكثر المتعلمين المتسمين بالحكمة في بلدنا، الذين يجري استبعادهم باستمرار، عبر حقب التاريخ المختلفة، من أن يلعبوا أي دور مؤثر في الحياة العامة، وكأن هناك قوى خفية تقوم دائماً باستبعاد الصالح وتأتي بالطالح، فتكون النتيجة تأخير الإصلاح أو عدم مجيئه أبداً.

لا يمكن إنكار دور الاستعمار عندما كان هناك ما نسميه بالاستعمار، ذلك أن مصلحة المستعمر كثيراً ما تتعارض مع مصالح الشعب الخاضع له، وإن لم يكن هذا التعارض موجوداً دائماً، وكان من سياسات الاحتلال الانجليزي طوال النصف الأول من القرن العشرين تعطيل التصنيع في مصر وتعطيل جهود محو الأمية، ولكن سلطة الاحتلال الانجليزي لم تمنع مثلاً إنشاء جامعة فؤاد الأول في 1908، التي كان لها دور ممتاز في النهوض بالحياة الثقافية في مصر، كذلك قام الاستعمار الأميركي في النصف الثاني من القرن، بتعطيل سياسة الاكتفاء الذاتي في إنتاج الغذاء (لتصريف الفائض الأميركي من الحاصلات الزراعية واستخدام ما يسمى بالمعونة الغذائية في توجيه السياسة المصرية في الاتجاه المطلوب)، ولكن هذا الاستعمار لم يقف ضد قانون الإصلاح الزراعي، بل شجعه، كما شجع نوعاً من أنواع التصنيع، وساعد هذا وذاك على نمو الطبقة الوسطى في مصر.

لكن الاستعمار ليس هو «القوة الخفية» الوحيدة التي عطلت الإصلاح في العالم العربي، هناك أيضاً قوة «الفساد»، وهي كثيراً ما تنشأ ابتداء بسبب الاستعمار، ولكنها تنمو وتترعرع بقوتها الذاتية وقوانينها الخاصة، سواء في وجود الاستعمار أو غيابه، الاستعمار لا يشجع الإصلاح، ولكن الفساد لا يطيقه، الإصلاح يعطل جهود المستعمر، ولكنه يفضح الفساد ويقتله قتلاً.

Email