الإصلاح في وطننا العربي.. السهل الممتنع

ت + ت - الحجم الطبيعي

نحن كعرب أمة كثيرة الشكوى، لا نكف عن الكلام عن ضرورة. ولا شيء يحدث، ونستمر نحن في الشكوى. يحدث هذا في الاقتصاد، وفي السياسة، وفي التعليم، وفي الثقافة، ..الخ. لو قام أحدنا بتصفح جرائدنا في الخمسين عاما الماضية، لوجد نفس المطالبات بالإصلاح، في مختلف الميادين، وأحيانا بنفس العبارات والألفاظ التي نستخدمها اليوم.

أثناء ذلك تمر الأيام والسنون، وتحرز أمم أخرى تقدما كبيرا أو صغيرا، فيصبح هذا أيضا موضوعا للشكوى: كيف تأخر ترتيبنا إلى هذه الدرجة بين الأمم التي كانت في مثل حالتنا أو أسوأ؟ لابد أن نفعل مثلهم ونلحق بهم. ولكن المهمة تزداد صعوبة مع مرور الوقت، لأن التدهور يجلب مزيدا من التدهور، والعطب في ميدان من ميادين الحياة يسبب عطبا في ميادين أخرى. والناس على أي حال لا يكفون عن التوالد والتكاثر. في كل يوم حفل زواج جديد، ومن ثم أطفال جدد يتزاحمون على المدارس وعلى أرغفة الخبز. والمدارس مكتظة من الأصل، والمدرسون مرهقون..الخ.

هناك عدة أوجه للتعجب من هذه الحالة. من بينها ما يخطر لي أحيانا من أن كثيرا من هذه المشكلات لا تبدو لي عصية على الحل لهذه الدرجة. في كل من القارات الثلاث سيئة الحظ (أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية) أمثلة لنجاح باهر في مختلف مجالات الحياة، تم إنجازه في فترة قصيرة من الزمن: الصين في أواخر السبعينيات من القرن العشرين، وكوريا الجنوبية في الستينيات، وماليزيا في الثمانينيات، وجنوب أفريقيا تحت حكم مانديلا، والبرازيل تحت حكم لولا دي سيلفا. بل حدث في مصر نفسها تقدم مبهر في مختلف نواحي الحياة في الثلاثينيات من القرن التاسع عشر، ثم في السبعينيات من القرن نفسه ثم في العشرينيات من القرن العشرين، ثم في الخمسينيات من القرن نفسه. في كل هذه الأمثلة وغيرها لا يبدو أن الأمر كان يحتاج إلى معجزة، بل تمت الإنجازات بسرعة وارتفعت الآمال بسببها بسرعة أيضا، وبدأت تؤتي ثمارها فورا.

عندما أعود بذاكرتي للكتب التي كانت مقررة في المدارس في صبانا، أتذكر كم كانت جميلة وراقية بالمقارنة بما يقرأه تلاميذنا اليوم، وكم كانت تلتزم بقواعد الملائمة لأعمار التلاميذ، عقليا ونفسيا، وكيف كان يقوم بمراجعتها كبار المعلمين أو رجال الأدب. إني لا أقصد طبعا أن مشكلة التعليم بهذه البساطة، وأنها تحل بمجرد تغيير المقررات الدراسية. فهناك أيضا مشكل مرتبات المدرسين، ودرجة تأهلهم للتدريس، وأحجام الفصول، والأدوات المدرسية المتاحة...الخ. كما إني لا أقصد أن الكتب القديمة لا تحتاج إلى أي تعديل. ولكني قصدت أن أقول إن هناك حلولا لبعض المشكلات أسهل بكثير مما نتصور، ولكننا لسبب ما نتغاضى عنها.

وفيما يتعلق بتجديد الفكر الديني، فإن التفكير الديني نشاط اجتماعي له جانبه الفكري ولكن له أيضا جانبه الاجتماعي المهم، ومن الممكن جدا أن يبدأ التفكير الديني في التحسن والاستقامة بمجرد تحسن الظروف الاجتماعية والاقتصادية، ثم يأتي الفكر الديني المستنير فيزيد الأمر استقامة.

شيء مماثل يمكن أن يقال عن الإصلاح الاقتصادي كلنا مستعد للاعتراف بأن الإصلاح الاقتصادي يحتاج إلى خطة. فلماذا تتكرر عندنا الخطط، وننتقل من خطة لأخرى دون أن يحدث الإصلاح الاقتصادي؟ لا أظن أن وضع الخطة المطلوبة أمر صعب لهذه الدرجة من الناحية الفنية. ولدينا مئات ممن درسوا التخطيط الاقتصادي في أفضل الجامعات في العالم. فلماذا يا ترى لا نحظى بالخطة المطلوبة إلا نادرا؟

هذا هو ما قصدته في عنوان المقال«بالسهل الممتنع» هذا التعبير الجميل نستخدمه عادة لوصف أسلوب كاتب كبير يتميز بالوضوح والعذوبة، فيسهل فهمه، ولكن يكاد أن يكون من المستحيل تقليده والإتيان بمثله. خطر لي أن الإصلاح المطلوب في بلداننا العربية، في مختلف الميادين هو أيضا من قبيل «السهل الممتنع»، يبدو واضحا وسهلا، ولكن، لأسباب غامضة، يبدو وكأنه مستحيل التحقيق.

ما هو التفسير الحقيقي لهذه المعضلة؟ لماذا نبدو وكأنه من المحتم علينا أن نستمر في الشكوى، والإصرار على ضرورة الإصلاح، دون أن يتم أي إصلاح؟ ما هو السبب الحقيقي لكون الإصلاح لدينا «ممتنعا» لهذه الدرجة؟ سأحاول استعراض بعض الإجابات المحتملة في المقال التالي.

مفكر اقتصادي مصري

Email