الاستشراف في الجهات الحكومية

ت + ت - الحجم الطبيعي

«لقد نجحنا لأننا اعتبرنا دائماً أن الغد يوم جديد وأن ما تحقق في الأمس قد تحقق وأن التاريخ الذي نكتبه هو ما ننجزه في المستقبل وليس ما أنجزناه في الماضي» صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم يستنطق العالم المجهول ليس لمجرد التخمين بل لأن الإنسان المعاصر يعشق سبر هذا المجهول القابع في واحة المستقبل، وهو هنا لا يجّنح نحو الغيبيات لأن الغيب في يد الله سبحانه وتعالى، نحن اليوم نتكلم عن علم استشراف المستقبل الذي شغل الجميع من غربه إلى شرقه، والذي بدأ في المؤسسات الأميركية من خلال ما يُسّمى بخلايا الأفكار (THINK TANKS) لتسويق الأفكار وصناعة القرار وإعداد الدراسات المستقبلية، وعليه إذا سلّطنا الضوء على مفهوم (الاستشراف) لغةً واصطلاحاً، فإنه لغةً: اسم مصدر، وأصله استشرف أي صعد وعلا، وأما تعريفه الاصطلاحي فاستشراف المستقبل هو التطلّع إليه لمعرفة طبيعة وأهمية المتغيرات المستقبلية.

وبتوضيحٍ بسيط: الاستشراف هو مشاهدة المستقبل وتوقعاته الموجودة في مخيلتنا، وليس هو مجرد تصورات مستقبلية يرجو منها الإنسان أن يحكم العالم من خلال كشف مجهولية هذا الكون أو بالأحرى الغيب بل هو وبلغة مبسطةٍ: هو محاولة استكشاف المستقبل وفق أهداف محددة بأساليب كيفيّة وكميّة، ولتعمّق في ماهيته نورد أحدث رؤية صادرة من مركز الاستشراف الاستراتيجي للمستقبل في سنغافورة والذي يعتمد كلياً على (3) محاور:

- محور التفكير الاستشرافي

- محور الانطلاق من التفكير الاستشرافي إلى التفكير الاستراتيجي

- محور الاستشراف الاستراتيجي

وتقودنا هذه المحاور إلى إيجاد الفارق الاصطلاحي بين الاستراتيجية والتفكير الاستراتيجي والتخطيط الاستراتيجي لارتباط استشراف المستقبل بالخطط الاستراتيجية كون الاستشراف أداة للتخطيط الاستراتيجي والتفكير بالمستقبل من أجل استدامة المؤسسات وجعلها فتيةً.

الأمر الذي يجعلنا نستنبط إن الاستشراف غير التخطيط الاستراتيجي حيث إن الأول (الاستشراف) هو التعّرف (التطلّع) على احتمالات ما سوف يكون في المستقبل أما التخطيط الاستراتيجي هو تحديد هدف معين ومحاولة الوصول إليه وتحقيقه. والمهم هنا هو التطرق إلى مفهوم التفكير الاستراتيجي الذي هو عملية ابداعية في استشراف المستقبل انطلاقاً من الماضي والحاضر تهتم بمعالجة البصيرة، وينجم عنها منظور متكامل للمستقبل.

ولتقريب مفهوم الاستشراف لدى القراء نوضح إن الاستشراف غير التنبؤ كون التنبؤ هو استرجاع موقف معين لمعرفة الماضي فقط، ولا يؤثر على المستقبل عكس الاستشراف – في ابسط صوره– يريد معرفة الماضي ويعمل على تغييره في المستقبل كنوع من الإبداع والابتكار.

وحسناً فعلت حكومة دولة الإمارات العربية المتحدة إنها أدخلت الاستشراف كقيمة وتجربة في الجهات الحكومية من خلال برامج التميز الحكومي سواء في الجهات الاتحادية أو الجهات المحلية (منظومة الجيل الرابع) تحت المحور الثاني (الابتكار) وخصّصت له (5%) من نسبة أو درجة المعيار.

وحددت له معيارين:

1. التفكير المستقبلي:

أ‌. قدرات التفكير المستقبلي

ب‌. تقييم الإنجازات والمناهج الخاصة بالتفكير المستقبلي

فهذه المعايير تسعى دولة الإمارات العربية المتحدة بها لأن تواكب التوجّه العالمي المهتم بهذا النوع من التجارب والعلوم لمواجهة التحديات من خلال استمطار واستقداح الأفكار الخلاقة لاقتناص الفرص من المستقبل برؤية بعيدة عالية الطموح والثراء، وتأسيس عقلية عربية فذة في علم استشراف المستقبل.

ومحصلة القول نقول بشفافية: إن الاستشراف أو استشراف المستقبل ليس ضرباً من الخيال المريض لاستكشاف الغيبيات، وليس بذخاً أو ترفاً فكرياً تقوم به الجهات الحكومية، وتنشئ المختبرات والورش من أجل الارتقاء أو بالأحرى استحضار المستقبل ليكون مشهداً حياً بدلاً من استجرار الماضي فقط، وهنا نعود إلى القيادة الإدارية لهذه الجهات لكي تستعين باستشراف المستقبل الذي يجب أن يتصف بالإدارة والقوة والقرارات القائمة على المعرفة، وتحويل ثقافة الاستشراف (استشراف المستقبل) إلى ثقافة مؤسسية بل إلى ثقافة مجتمعية أعم، كون هذا الاستشراف ليس مقتصراً على مجال دون مجال بل هو مرتبط بجميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية.

وعليه ختاماً: تعدّ دولة الإمارات العربية المتحدة رائدة في هذا المجال لذا نسعى أن تصبح الجهات الحكومية فيها معتمدة على الرؤى المستقبلية الوثّابة، وأن تصبح مرجعية فكرية لدول العالم في مجال استشراف المستقبل وهذا ليس ببعيد.

Email