وزير الدفاع العراقي يفجر العملية السياسية

ت + ت - الحجم الطبيعي

هناك مصطلحان يستخدمان في الدعوة التي يوجهها المجلس النيابي العراقي للمسؤول الذي يقرر استدعاءه هما »الاستضافة« و»الاستجواب«. المصطلح الأول يحفظ مكانة المستدعى، فالمطلوب منه تقديم بعض الإيضاحات حول مواقف تتعلق ببعض المهام المرتبطة به وظيفياً، في حين يقلل المصطلح الثاني من شأنه لأن الاستجواب هو التحري عن شكوك وشبهات تحيط بالملفات المكلف بمهام إدارتها.

وزير الدفاع العراقي الذي مثُل أمام المجلس النيابي في الأول من أغسطس الجاري كمستجوب للمرة الثانية خلال سنة واحدة أحدث صدمة كبرى حين قلب الطاولة على البعض في رسالة بأنه قد يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك خاصة وأن أمامه جميع الملفات الخاصة بالعقود التسليحية وغيرها التي أجرتها الوزارة على مدى ثلاثة عشر سنة.

الوزير لم يكتف بدرء الاتهامات الموجهة إليه للخروج من أزمة سحب الثقة بسلام بل فاجأ الجميع بتوجيهه أصابع الاتهام نحو رئيس المجلس النيابي ونحو عدد من النواب متهماً إياهم بممارسة الابتزاز والإغراء بالرشى والعمولات على مدى أكثر من عام للفوز بعقود مختلفة تتعلق بتجهيزات الوزارة العسكرية واللوجستية لصالح بعض الشركات أو رجال الأعمال مما فجر الجلسة التي سادت فيها الفوضى.

الوزير لم يكشف شيئاً غير معروف للقاصي والداني، الفساد في العراق غير خاف على أحد وحيتانه لا تزال تمارس دورها مطمئنة إلى مناعة وسطوة مافياتها، ولكنه امتلك الشجاعة رغم قوة هذه المافيات على فضح بعضها مجازفاً بمستقبله السياسي وربما بما هو أهم من ذلك.

ما حدث في المجلس النيابي له أكثر من وجه في ظل الأوضاع السياسية في العراق وما يكتنفها من التباسات، فهو من جهة تعبير عن الصراع بين السلطة التشريعية والتنفيذية وخاصة الإصرار على استهداف وزارة الدفاع مما قد يعزز الرأي القائل إنه جزء من الحملة المنظمة لتقزيم الجيش العراقي لصالح قوات غير نظامية برزت على المسرح أخيراً..

وهو من جهة ثانية أحد تداعيات التناقضات داخل المعسكر السني الذي تفاقمت الصراعات فيه حول الزعامة السياسية للطائفة على مستوى التنافس لتبوؤ الموقع الأكثر أهمية في الدولة المسموح لهذه الطائفة بتبوئه.

وأياً كان الوجه الحقيقي فإن النتيجة كانت إيجابية لقيت ترحيباً منقطع النظير على المستوى الشعبي بعيداً عن أي اصطفاف طائفي، فالجمهور في أشد التلهف لرؤية ما رآه وسماع ما سمعه. وتطوع فريق من المحامين على رأسهم نقيب المحامين السابق لإسناد الوزير وتبني القضية التي فجرها ومتابعة مآلاتها في دوائر القضاء واللجان المختصة.

لم يقم أي من المسؤولين العراقيين في السلطتين التشريعية والتنفيذية بتقديم معلومات عن الفساد بشكل طوعي رغم أنهم لا يضيعون مناسبة دون الحديث عن أهمية التصدي له..

فما قدمه وزير الدفاع من معلومات حول الفساد لم يكن خياراً طوعياً بل جاء في لحظة متقدمة من الصراعات السياسية وجد نفسه في مركزها. جاء كمحاولة للدفاع عن النفس بعد أن جيء به لاستجوابه حول شبهات وشكوك طالت العديد من الملفات التي تتعلق بمهام وزارته وكان بارعاً في تحويل الموقف حين جعل المجلس النيابي نفسه بشخص رئيسه متهماً.

وفي سياق متصل للدفاع عن النفس قام رئيس المجلس أمام لجنة النزاهة النيابية التي باشرت بالتحقيق معه ومع النواب الآخرين الذين وردت أسماؤهم قام هو الآخر بكشف معلومات خطيرة عن الفساد حسب ما صرح به رئيس اللجنة.

والحقيقة أنها لمأساة أن يكون بعض المؤتمنين على مصالح الشعب في الهيئة التشريعية والرقابية يتسترون على الفساد إن لم يكونوا ضالعين فيه، فالمعروف أن المناصب في الدولة بكل مؤسساتها ليست مستثناة من بازار الأحزاب السياسية.

من المبكر الحديث عن المسارات التي سوف تتخذها شظايا وزير الدفاع، فهناك مصلحة لمعظم القوى إن لم يكن جميعها لتلافي تفجير الوضع بالكامل لأنه سينقلب عليها، فالكل، بهذا الشكل أو ذاك، قد يُجر للمساءلة وسط غضب شعبي هائل ومسرور لما يجري على هذا المسرح. ولكن من غير شك لن تمر الأمور بسلام على الجميع فقطعة الدومينو الأولى قد تحركت وليس من السهل منع سقوط الأخريات.

ومع أن هناك إجراءات سريعة قد اتخذت في مجلس النواب وفي ساحة القضاء أفضت إلى تبرئة رئيس المجلس النيابي وإسقاط التهم عنه إلا أن القضية لم تنته بعد، فمجلس النواب قد أجل التصويت على مدى القناعة بأجوبة الوزير في جلسة الاستجواب من عدمها إلى جلسة الخامس عشر من أغسطس الجاري. الفصول المقبلة ستكون أكثر تعقيداً وغموضاً..

فهناك شكوك جدية حول مدى صواب عودة رئيس المجلس إلى منصبه بعد أن تعرض شخصه لهذه الهزات، وهناك شكوك حول مستقبل وزير الدفاع إذا عجز عن تقديم أدلة على الاتهامات التي وجهها، وهناك قبل هذا وذاك تخوف من أن الصفحة الأولى التي فتحت للتعرف على حجم الفساد وامتداداته قد يصار إلى غلقها.

فالفساد في العراق يتجاوز ممارسات بضعة أشخاص سواء كانوا بالعشرات أو المئات، فهو يكمن في جوهر العملية السياسية، وهو الذي سمح بهدر ثروات العراق وخسارة 40% من أراضيه لصالح تنظيم داعش وهو الذي مهد الطريق للقوى الإقليمية لاختراق مؤسساته الأمنية وسهل لها إملاء إراداتها بوضح النهار على سياسييه.

 

 

Email