الديمقراطية العربية

ت + ت - الحجم الطبيعي

خلال زيارتي للولايات المتحدة، وتحديداً في هذا الوقت أتابع انتخابات الرئاسة الأمريكية، ومن سيجلس على عرش هذه الدولة الديمقراطية بكل معنى الكلمة، فمنذ الحرب الأهلية الأمريكية والتنافس الديمقراطي بين الحزبين (الديمقراطي، الجمهوري) قائم ليظفر أحدهما بفرصة إدارة البلاد، والتي تعد من أكثر الدول تقدماً في مجال الديمقراطية السياسية، وهذا ما يُثبته التاريخ وأيضاً ما نشاهده خلال مرحلة الترشح للانتخابات الحالية، الأمر الذي يستدعي أن ندرس ديمقراطيتنا العربية، وأن نحللها ونعرف مستقبلها.

الوطن العربي يعاني تدني مستوى الديمقراطية وحرية التعبير والسلوك، وإن كانت المؤشرات والتحليلات تبين عكس ذلك، والبعض يوعز بأن السبب الرئيس في ذلك هو الأنظمة القمعية الديكتاتورية، ولكن في حقيقة الأمر أننا كشعوبٍ غير مجهزين للتعايش ضمن إطار هذا المصطلح، والذي ينعكس على جميع جوانب حياتنا الاقتصادية والاجتماعية، فقد حاولت بعض الدول العربية إدخال أنظمة ديمقراطية لتطبيقها على شعوبها، ولكن سرعان ما تحول الوضع لكارثي بعد أن تطاولت وتمردت الأحزاب على الدولة، فمصيبتنا أننا لا نفهم كيف نكون معارضين، ونعبر عنها بأن نصبح متمردين.

الديمقراطية بأبسط تعاريفها هي حكم الشعب نفسه بنفسه، فكيف سيحكم الشعب نفسه وهو لا يعلم مسبقاً ماهية نفسه، لذا لكي نوجد ديمقراطية حقيقية فعلينا أولاً أن ننشئها في نفوس مجتمعاتنا منذ الصغر، بأن نعلمهم في مدارسنا ومناهجنا كيفية تطبيق الديمقراطية ومبادئها وأساسياتها، وليس تعريف مصطلحها وتاريخها ونشأتها فهذا لن يجدي نفعاً، وأرجوكم لا تخبروهم بأنها كلمة إغريقية فقد غرقت شعوبنا بالتعاريف أكثر من استخلاص العبر وتحويلها لتطبيق وتنفيذ ملموس.

ودعونا نتساءل من الذي أفشل الانقلاب العسكري في تركيا؟! وحتى أسهل الإجابة سأتبع أسلوب خيار من متعدد (الشعب، أردوغان، تركيا)، ولأول مرة ستكون الإجابة (جميع ما ذكر)، فالشعب مستعد ديمقراطياً، ويعلم ماذا تعني تركيا بالنسبة إليه، وماذا يعني أردوغان لتركيا، فما هو إلا رئيس مُنتخب مثل حزبه، وعمل لتنفيذ مخططه الإصلاحي لا أكثر، سواء رفضه الشارع أو دعمه، فصندوق الاقتراع هو الخيار لتبديله، وليس الدبابة، وحتى المعارضة علمتنا درساً؛ بأن الخلاف من أجل مصلحة الوطن يكون داخل «قبة البرلمان»، وليس بارتداء «القبعة العسكرية».

فسواء لم يلتزم أردوغان في تركيا، أو أوباما في أميركا بالمخطط الإصلاحي والتطويري الذي بينه للشعب وقت الانتخابات، فلن يُعطى حزبه الثقة مرة أخرى، فقضية الشعوب المتقدمة قضية وطن ومصالح شعب واقتصاد، وليس قضية شخص بعينه سواء كان ديمقراطياً، أو جمهورياً، أو نازياً، أو شيوعياً، وحتى وإن كان إسلامياً، وهذا ما أثبته أوباما في المؤتمر الوطني الديمقراطي 2016، فمن أجل بلاده قال لهم: «أهلاً أيها الأميركيون»، وتنازل عن ترحيبه المعتاد بجماهيره «أهلا أيها الديمقراطيون»، وكأنه يقول لشعبه ولمن يخلفه في نهاية مرحلته الرئاسية، إن قضيتنا جميعاً هي «أميركا»، مهما اختلفت أحزابنا.

السلاح في يد الطفل خطر، فلا هو يستطيع الضغط على الزناد ليطلق الرصاصة، ولا هو بقادرٍ على أن يصوب بالاتجاه الصحيح فيعرِّض حينها حياة الآخرين للخطر، وهذا تماماً ما يُشابه ديمقراطية شعوبنا العربية، فنحن لن نستطيع استخدامها بالشكل الصحيح وبما يخدم حياتنا ويجعلها أفضل، إنما ديمقراطيتنا عبارة عن تمردٍ وسبٍ وشتمٍ في شخوص الحكومات، أو ستتحول لأحزاب تتضارب عسكرياً على أرض الواقع، وسيكون نتاج خططهم السياسية دماء وفتناً ونزاعات «للأسف».

الديمقراطية أهم مقوِّمٍ لبناء مستقبل ناجح، لذا دعونا نطبقها ونؤسس لوجودها عن طريق إيجاد لجانٍ مدرسية، وانتخابات صفية إن صح التعبير، ونعلمهم بأن هذا الصندوق «الأبيض» الشفاف نتائجه واضحة ولا تحتمل التعقيد، وبأنه مختلف عن ذاك الصندوق «الأسود» المخبأ بداخله أجندات خارجية، ومخاز سياسية، ضعوا في عقولهم وفي صدورهم أن حب الأوطان ليس كشف المستور، والتفتيش في الحياة الشخصية، وبأن هدفنا الارتقاء بالوطن، فحب الأوطان يتمثل بأن نصنع ونعمل ونجتهد ونتحدى لنفوز من أجل الوطن، وليس صورة بروفايل ولا تغريدة.

علموا هؤلاء الطلاب في الجامعات بأن مجالس اتحادات الطلبة هي النموذج المصغر للانتخابات النيابية والبرلمانية، اجعلوهم يمارسون الديمقراطية في جميع مراحل حياتهم، شاركوهم القرار في البيت، والمدرسة، والجامعة، والمؤسسة، والمدينة، والدولة بأكملها، فهذا ما سيعيننا على الأيام المقبلة، وأزيلوا من قلوبهم المنظورات الشخصية فهي دمار للشعوب، واستبدلوها بمنظورات وطنية فهي الباقية إلى الأبد.

Email