الإسرائيليون وجدل الهوية

ت + ت - الحجم الطبيعي

نجاح الحركة الصهيونية في استجلاب قطاعات يهودية من مشارق الأرض ومغاربها إلى مشروعها الاستيطاني، لا يعني نجاحا موازيا في توفير المواطنة المتساوية لهم ولا في الوفاء بكل ما وعدتهم به. هذا ما نفهمه من حقيقة التراتب الطبقي متعدد الأبعاد، اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا وسياسيا، بين اليهود داخل إسرائيل الدولة، ناهيك عن التسليم باستحالة المساواة بين هؤلاء اليهود عموماً وبين السكان الأصليين الفلسطينيين العرب.

سيدفع البعض بأن الحقبة التي مرت منذ قيام إسرائيل، لا تكفي للحكم على قدرتها في صناعة هوية ذاتية جامعة، تجلب خصوصية هويات المهاجرين إليها. وربما قال قائل بأن إسرائيل؛ على رغم تباين الهويات الفرعية المتغلغلة في أحشائها، إلا أنها ما زالت تنعم بسلم أهلي داخلي تفتقده كيانات أخري في محيطها الإقليمي.

إذا نحينا هذه المقارنة جانبا، لاختلاف المعطيات والمدخلات بين طرفيها، وقيمنا التجربة الإسرائيلية من داخلها؛ بناء على مرادات مؤسسيها وروادها ومنظريها، وجدناها تسير في الاتجاه المعاكس لبعض هذه المرادات. ومن ذلك أن المؤسسين على صعيدي النظرية أو التطبيق، مثل هيرتزل وجابوتنسكي وبن جوريون وشاريت واشكول ومائير، انحازوا إلى إنشاء كيان ينصهر فيه اليهود سريعا وفقا لمعايير الحضارة الغربية، ويبثون هذه المعايير في عالم الشرق «البربري الكسول والمحبط والبعيد عن التفكير العقلاني.». وكثيرا ما روج هؤلاء لصورة المستوطن اليهودي وقد حمل المعول في إحدى يديه والبندقية في اليد الأخرى. كناية عن قطبي الوجود الفاعل: العمل والقوة.

كان بن جوريون على رأس الذين رددوا هذه المعاني في أكثر من مناسبة. ومن مأثوراته «إننا لا نريد للإسرائيليين أن يصبحوا عربا. من واجبنا أن نقاتل روح الشرق التي تفسد الأفراد والمجتمعات». وهو شبه يهود العالم العربي تحديدا بـ «الزنوج الذين أحضروا إلى أميركا».

على أن أول رئيس لوزراء إسرائيل لم يعش ليرى كيف أن أحد أحفاد الزنوج صار سيد البيت الأبيض الأميركي. والأهم أنه هلك قبل أن يعاين فشل ما سماه ومجايلوه من دهاة الصهيونية «بوتقة الصهر»؛ التي كانت وما زالت تعني إعادة صياغة شخصيات المهاجرين من يهود «الشتات» لإنتاج هوية صهيونية إسرائيلية جديدة. خلفاء بن جوريون وأحفاده لا يملكون راهنا جرأة إنكار أن اليهود في إسرائيل ليسوا أكثر من يهود الشتات، وقد اصطفوا بسماتهم وشخصياتهم وهوياتهم الأصلية إلى جوار بعضهم البعض، الأشكناز والسفارد والعرب والروس والأفارقة، ولكل جماعة منهم قوامها الثقافي ومصالحها المادية والمعنوية.

الحال أيضا هو غياب المستوطن النموذجي. فالمستوطنون باتوا جماعات من المنتفعين؛ الذين تخلوا إلى حد كبير عن الفأس فيما أبقوا على البندقية وما يتصل بها من سلوكيات إجرامية، لتحقيق مآرب خاصة بهم. منذ سنوات والإسرائيليون يتهامسون حول «المستوطن اللوكس»، الشغوف بالشقة زهيدة الثمن وبالميزات الاقتصادية والإعفاءات الضريبية والحماية المسلحة؛ التي يحظى بها عند الانتقال إلى الأرض الفلسطينية المحتلة. وفي السياق، يتهكمون هناك ويسخرون من المستوطنين الذين عبأوا جيوبهم بأموال التعويضات يوم أن غادروا قطاع غزة، ثم راحوا يفتشون عن مناطق أخرى في الضفة والجولان ليستوطنوها انتظارا لمزيد من التعويضات لاحقا.

هذه الروح النفعية المادية ليست بعيدة ولاهي غريبة عن تصرفات الكتل اليهودية الوافدة من هنا وهناك التي يعمل كل منها على شاكلته، مشدودا إلى «قبيلته الأم» وأصوله التي نقلها معه إلى «أرض الميعاد». يقول ابراهام بورج، عضو الكنيست ومسؤول الوكالة اليهودية سابقا. «تبين بمرور الوقت أن فرن الصهر الإسرائيلي كان معطلا. فالهويات لم تمح ونحن نواجه الآن حروق الصهر ونبحث بواسطة الصراع عن التوازن بين الهويات».

لم ينخرط يهود إسرائيل في سبيكة واحدة. ولا ندري لماذا لم يلحظ الصهاينة، الأوائل منهم والأواخر، التناقض بين الحرص على تكوين دولة غربية الأهداف والقيم والهوية والهوى، وبين حديث الدولة البوتقة التي تفضي إلى نشوء هوية إسرائيلية جديدة. لا تفسير لذلك سوى أنهم قصدوا أن تكون بوتقة الصهر أداة لتغريب كل مواطني إسرائيل، لكنهم فشلوا فشلا ذريعا.

Email