ماذا تبقّى من غسّان كنفاني في ذكرى استشهاده؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

كان غسّان فارساً يحمل القلم ليجسّد آلام شعب وآمال ثوّار، ويحمل قضية أمّة، ذلك هو غسّان الذي افتقدناه. كان غسّان يؤمن بأن الإنسان ليس في نهاية المطاف إلا قضية. فمنذ اقتلاعه من أرضه ظل يمتلك ما هو أكثر من الذاكرة، لقد كبر غسّان اللاجئ الفلسطيني ليكبر معه الوطن.

هل يمكن لغسّان أن يتجاوز ذلك الحلم والهاجس الدائم الذي ينال من الذاكرة، فيصنع من حياة الفلسطيني حياة اشتباك دائم. اشتباك مع الفقر. واشتباك مع الأنظمة واشتباك مع الذات واشتباك مع المحتل.

ماذا تبقّى من غسّان كنفاني ؟ تبقى من غسّان (ما تبقى لكم) و(عائد إلى حيفا) وتبقى من غسّان (أم سعد) التي تنظر إلى (رجال في الشمس) وهم يلتفحون بنار الصحراء. ماذا تبقى منه؟ هل ننسى العاشق والأعمى والأطرش وبرقوق نيسان.

هناك من المبدعين من يحق أن نسأل عنهم ماذا تبقى منهم؟ ومبدع بحجم غسّان ونوعية إبداعه تظل نتاجاته علامات فارقة في الأعمال السردية المعاصرة. وحيث إن غسّان كنفاني لم يكن مجرد كاتب محترف، بل مناضل وكاتب ملتزم، فقد كان لأعماله مذاقها الخاص، وكان للغته أسلوبها المتميز الذي نشعر معه بالمتعة التي تصاحب اللغة البسيطة المدهشة.

كان غسّان يناضل بالكلمة، ورشاشه ليس بعيداً عنه، ولم تكن طرود الاغتيال الإسرائيلية التي فجرته بعيدة عن المحاولة الصهيونية الدائمة لاغتيال الحلم العربي بفلسطين حرة من النهر إلى البحر. حاول غسّان خلال أعماله الإبداعية من قصة قصيرة ورواية بالإضافة إلى مقالاته وأعماله النقدية، أن يظل لصيقاً بالحلم الفلسطيني. ولهذا نجده يجسد معاناة الفلسطينيين في غربتهم، وهو يرتحل وعلى كتفه هموم وطن محتل، وفي جيبه مفتاح عتيق لمنزل آبائه وأجداده، سرقه منه يهودي، لعله والد شارون أو شارون ذاته.

كانت شخوص غسّان شخوصاً عادية من رحم التراب الفلسطيني معجونة بقيم الكرامة والشموخ والإيمان بالحرية. لقد كتب غسّان في مدخل رواية أم سعد: (إننا نتعلم من الجماهير ونعلمها ومع ذلك فإنه يبدو لي يقيناً أننا لم نتخرج بعد من مدارس الجماهير، المعلم الحقيقي الدائم، والذي في صفاء رؤياه تكون الثورة جزءاً لا ينفصم عن الخبز والماء وأكُفّ الكدح ونبض القلب). ولا شك في أن صفاء الرؤية والرؤيا لدى غسّان هي التي نقلت هموم الشعب الفلسطيني إلى عمل إبداعي يُعايش الإنسان العربي معه نبض الألم والأمل الفلسطيني.

لو عاش غسّان إلى اليوم ورأى ما جرى بعد اغتياله إلى اليوم لشاهد ما لا يخطر على بال اتفاقيات توقع، وأحلاما تتهاوى، لكنه بكل تأكيد لن يفقد الأمل الذي عاش واستشهد من أجله. وسيدرك إلى أي مدى يمكنه أن يقف بالجماهير التي فجرت الانتفاضة الأولى وانتفاضة الأقصى، هذه الجماهير التي لا تكل من العطاء والتضحية على الرغم من مناورات الساسة واتفاقاتهم مع العدو الذي لا يحترم اتفاقاً. لم يحاول غسّان أن يداري تعاسة الواقع الذي يعيشه الفلسطيني، ولا الأخطاء التي ارتكبها. كان غسّان يحفر على الآلام ويعريها. إنه يقوم بذلك لا ليفضح بل ليُفصح، نعم كان يعرّي الآلام لتتجاوزها الذات المقهورة.

لقد أراد غسّان أن يقترب من الجماهير، ولأنه كان يكتب من أجل قضية الجماهير فإنه وهب قلمه لينسج حكايات الفقراء، ويكتب للغد المشرق الذي يحتاج إلى فرسان مثله. استشهد غسّان في زمان الاشتباك وظل فارساً لا يعرف الترجّل. ولأنه كان لا يرغب في القعود، فإن أعداءَه كانوا أجبن من أن يواجهوه، فكان ذلك الاستشهاد، بطولة غسّان وجُبن الأعداء. ولكن اسمه بقي لنا وبقيت أعماله بإرهاصات غد مشرق لفلسطين الحرة.

Email