انقلابات غامضة من غورباتشوف إلى أردوغان

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا يجوز لأي انقلاب عسكري جاد أن يفشل، لأنه في حالة عدم نجاحه سيكون وبالا، إما على أصحابه أو على شعبه ودولته، ولا يمكن على ضوء ذلك الحديث عن انقلابات وسطية تتوقف قبل استكمال مهمتها وأهدافها، ولكن عادة ما يتم الحديث عن انقلابات ناجحة وأخرى فاشلة، وإن كان هناك نوع ثالث يمكن رصده تحت عنوان «الانقلابات الغامضة».

قبل ربع قرن من الزمان بالتمام والكمال كان هناك انقلاب في الاتحاد السوفييتي السابق على الرئيس ميخائيل غورباتشوف، وقبل أيام قليلة شهدت تركيا انقلاباً من نوع فريد لعدة ساعات، الانقلابان العسكريان المشار إليهما هما بالقطع محاولات فاشلة، ولكن يمكن تصنيفهما في خانة الانقلابات الغامضة نتيجة للتأثيرات والنتائج العميقة التي نجمت عنها.

تعتبر الانقلابات العسكرية وسيلة لتنفيذ السياسات الداخلية فيما يتعلق بالوصول إلى السلطة، وترتبط بالقطع بالجيوش أو المؤسسات العسكرية عموما، وتمثل خروجا على النظم السياسية المتعارف عليها في تداول السلطة بالانتخابات الديمقراطية المباشرة أو توارثها بالتراضي والتوافق في النظم الملكية، أما الهدف النهائي لهذه الانقلابات فهو في الغالب إطاحة سلطة قائمة ممسكة بزمام الأمور في البلاد، أو الوصول بسلطة من داخل المؤسسة العسكرية إلى قمة الحكم، ونادرا ما تكون هناك انقلابات عسكرية بهدف إصلاح النظم القائمة من داخلها.

وبرغم كل ما يقال عن تعارض مهام الحكم وممارسة السلطة مع طبيعة عمل المؤسسة العسكرية وتناقض تدخلاتها مع المبادئ والقيم الديمقراطية، إلا أن الأمانة تستوجب الإشارة إلى أن تدخلات الجيوش في الحكم ليست كلها شراً كما يعتقد، فكثيرا ما كان تدخلها واستمرارها في قمة السلطة لفترة من الزمن عنصر توازن واستقرار وربما درءا لمخاطر كبرى، فإذا ما أسقطنا هذا التحليل على منطقتنا العربية نجد أن الانقلابات العسكرية على السلطة عرفت في دول بعينها في مرحلة ما بعد الاستقلال الوطني منتصف القرن الماضي وخاصة في سوريا والعراق والسودان.

أما إذا كان الحديث عن التداخل الشديد ما بين المؤسسات العسكرية والثورات الشعبية فربما لن نجد أفضل من الحالة المصرية كنموذج للتطبيق حيث يمكن القول إنها الحالة الأنجح لشرح تلك الظاهرة التي تكررت أربع مرات في تاريخ البلاد الحديث والمعاصر بغض النظرعن الآراء المتعارضة قبولا أو رفضاً، ولكن في الغالب هذا التداخل كان محتوماً وربما مبرراً لحماية البلاد والحيلولة دون سقوطها في بئر عميقة من الاضطرابات.

البداية كانت في ثورة يوليو 1952 التي كانت انقلاباً عسكرياً صريحاً بزعامة جمال عبد الناصر ولكن ترحيب الشعب الكبير بها واحتضانه لها سرعان ما حولها إلى ثورة شعبية شاملة عميقة التأثير.

وليس بعيداً عن ذلك ما حدث في الخامس والعشرين من يناير 2011 عندما ثار الملايين من المصريين في مواجهة أوضاع سياسية واقتصادية ومجتمعية غير طبيعية وأصبح سقوط نظام مبارك أمراً محتوماً، فتتدخل المؤسسة العسكرية وتتبنى الثورة دفاعاً عن الدولة والبلاد في المقام الأول وحمايتها من الانهيار، وفي الثلاثين من يونيو عام 2013 عندما خرج ملايين المصريين إلى الشوارع في ثورة جديدة احتجاجاً على استيلاء «الإخوان» على المؤسسات وانحرافهم بالبلاد بعيداً عن هويتها المألوفة كان دور الجيش مجدداً في الانتصار للشعب والاستجابة لمطالبه بإطاحة «الإخوان».

النماذج الأربعة السابقة تعكس في الغالب نجاحاً لدور المؤسسة العسكرية في تبني المطالب الشعبية والقيام بدور فاعل ومؤثر، وأغلب الظن أن الشعب المصري قبل بذلك للأرضية الوطنية التي ينطلق منها الجيش في قراراته وتحركاته فضلا عما كانت تمليه الظروف وجعلت دورالمؤسسة العسكرية ضرورياً في مواجهة الفوضى والسقوط، فساعدت هذه العوامل مجتمعة على استيعاب الدور العسكري في ممارسة السلطة بعد تدخل ناجح.

أما الانقلابات الثلاثة السابقة الذكر في إسبانيا (1981) والاتحاد السوفييتي (1991) وتركيا (2016) فجميعها كانت فاشلة وغلب عليها عدم النضج في الإعداد والتنفيذ إلى حد السذاجة، خاصة أن المؤسسات العسكرية في الدول الثلاث هي مؤسسات راسخة تدرك جيدا المقومات الأساسية والأولية المطلوبة لاكتمال نجاح أي انقلاب عسكري، ويمكن تصنيفها أيضا ضمن الحالات الانقلابية الغامضة نظراً للنتائج التي أسفرت عنها لاحقاً، ففي الحالة السوفييتية وبعد فشل الانقلاب تفكك الاتحاد السوفييتي تماماً واختفى من على خريطة العالم وتحول إلى خمس عشرة جمهورية مستقلة.

وفي الحالة الإسبانية تم تكريس الملكية وتصاعدت شعبية الملك خوان كارلوس بشكل كبير مع إبعاد المؤسسة العسكرية تماماً عن العمل السياسي، وأما في الحالة التركية؛ الوليد الجديد الذي لم يستمر إلا لساعات محدودة، فما زالت التطورات تضفي المزيد من الغموض على هذا الانقلاب تحديداً.

Email