سؤال في الديمقراطية بعد الانفصال البريطاني

ت + ت - الحجم الطبيعي

ستظل مسألة الخروج البريطاني من الاتحاد الاوروبي مجالا خصبا للدراسات السياسية لتشريح هذه الظاهرة من زوايا متنوعة ومختلفة، وأغلب الظن أن الضجة السياسية الكبرى التي رافقت الخروج البريطاني هي الأضخم من نوعها منذ زوال الاتحاد السوفييتي من على الخريطة السياسية العالمية أواخر عام 1991 في إعلان صريح عن سقوط المعسكر الشيوعي، وانفراد المعسكر الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة في أحد أهم وأخطر التحولات العالمية الكبرى خلال القرن العشرين.

وأغلب الظن أيضا أن هذه الضجة لم تكن حزنا أو أسفا على الخروج البريطاني في حد ذاته ولكن للتبعات الخطيرة التي قد تترتب عليه خاصة ما يتعلق بفتح الباب واسعا أمام احتمالات خروج قوى كبرى أخرى من الاتحاد كفرنسا وهولندا والتشيك، فضلا عن إمكانية تفتت الاتحاد ودول قومية أخرى على رأسها بريطانيا نفسها.

والحديث هنا ليس بصدد تناول أسباب الانفصال البريطاني وتداعياته المؤكدة والمحتملة على الصعيدين البريطاني والأوروبي وربما العالمي، ولكن الحديث ينصب على ما يمكن اعتباره أو وصفه بـ«حيرة النظريات السياسية» تجاه الظواهر المستجدة أو المفاجئة أو حتى المتناقضة وعلى رأسها ظاهرتا الدولة الوطنية والاتحادات أو التكتلات السياسية الكبرى، فبالنسبة للخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي نحن بالفعل أمام حدث له أهميته الكبرى، ولكنه على أية حال ليس الأول من نوعه، بل قد يكون الأقل تأثيرا من حالات مماثلة في ظروف تاريخية مغايرة، فلم يكن الخروج نتيجة حروب أو نزاعات وصراعات أو توترات أمنية ولكن بعملية ديمقراطية ومن خلال استفتاء شفاف ونزيه حفظ للدول الأوروبية كيانها وضمن لشعوبها البقاء.

ومن المثير للدهشة هو تزايد ظاهرة أو لعبة «الكراسي الموسيقية» ما بين الدولة الوطنية المنكفئة على حدودها وقيمها وثقافتها وتفتت الدول القومية الكبرى على غرار ما حدث مع الاتحاد السوفييتي السابق عندما تفكك إلى خمس عشرة جمهورية مستقلة، وكذلك يوغسلافيا السابقة التي تفتت إلى عدة دول، ثم اندلاع حرب البلقان في التسعينات من القرن الماضي، وأعقب ذلك أيضا انقسام دولة تشيكوسلوفاكيا إلى دولتي التشيك والسلوفاك في المرحلة ذاتها، ولكن هذا التفتت السياسي والجغرافي ولدت معه نظرية سياسية جديدة روجت لعصر التكتلات الكبرى ومن بينها على سبيل المثال الاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي وعشرات من الاتحادات والتكتلات الكبرى على مستوى العالم سياسيا واقتصاديا مثل الآسيان والابيك وبريكس والميركسور والكوميسا وغيرها من اتحادات وتكتلات نوعية معظمها كان يتطلب نوعا من التنازلات الوطنية الخاصة لمصلحة الفكرة الأكبر للاتحاد أو التكتل، ولكن الحيرة تبقى مستمرة ما بين تفتت القوى القومية وميلاد التكتلات الكبرى.

وفي هذا السياق ومع اندلاع مظاهرات ضخمة في بريطانيا قبل أيام قليلة من جانب مؤيدي بقاء بلادهم داخل الاتحاد الأوروبي باتت هناك بالفعل حاجة ملحة لمناقشة مسألة الديمقراطية الغربية، وخاصة ما يتعلق بديمقراطية الخمسين في المائة زائد واحد والتي تخول من يحصل عليها من الاحزاب والرؤساء الحق في الانفراد بالساحة السياسية لاتخاذ ما يرونه مناسبا من قرارات تتسق ومواقفهم ومبادئهم وتوجهاتهم السياسية، وفي ذلك إهمال جسيم لكتلة ضخمة جدا من البشر قد تصل إلى نحو خمسين في المائة من تعداد السكان مما يعني أن الأغلبية البسيطة التي حصل عليها حزب من الأحزاب قد تخوله حرية اتخاذ قرارات خطيرة تمس مصالح الشعب بأكمله.

وكثيرا ما عرفنا حكومات وأحزاباً ورؤساء اتخذوا قرارات بشن حروب وتدمير دول بمجرد وصولهم للسلطة بفارق بسيط جدا من أصوات الناخبين مثلما حدث في حالة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن في انتخابات عام 2000 أمام منافسه الديمقراطي البرت جور والذي تولى السلطة بقرار فريد من نوعه وغير مسبوق في تاريخ الولايات المتحدة بعد تدخل المحكمة الفيدرالية العليا، وبرغم ذلك اتخذ بوش قرارات خطيرة أدت إلى تدهور شعبيته بينما كشف الفرز الثاني للأصوات أنه لم يكن الأحق برئاسة البلاد!

وحتى إذا كان هناك إجماع غربي على أن الشكل الحالي للممارسة الديمقراطية هو الأفضل لأن من يأتي بها إلى قمة السلطة يمكن عزله منها بالطريقة ذاتها، إلا أنه بالتأكيد هناك عيوب كثيرة تلاحق هذا النهج الديمقراطي خاصة ما يتعلق بالأغلبية البسيطة وبالقضايا المجتمعية والسياسية المصيرية التي تحتاج في الغالب إلى معالجة من نوع خاص وتوافق مجتمعي يساعد على تجنب أي أضرار كبرى أو توترات أمنية محتملة.

Email