الموسيقى لغة كونية

ت + ت - الحجم الطبيعي

على جانب من عالم مشحون بالقلاقل، كانت وظلت الموسيقى والفنون والعمق الإنساني لغة كونية، أبقى أثراً وذاكرة من أحداث الإرهاب، ومن تغيرات السياسة والاجتماع، من نزوعات التطرف والكراهية وصعود اليمين، الذي تأكد صعوده مع الاستفتاء البريطاني على الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، وما ترتب عليه من ضجة هائلة وتبعات مذهلة تنتظر في بريطانيا وأوروبا كلها.

في ركن هادئ من هذا المشهد المضطرب في العاصمة لندن، كان لقاؤنا واستمتاعنا بالمطرب العالمي يوسف إسلام، بعيدا عن الأخبار المفزعة في شرق العالم وغربه، عبر مشهد إنساني رائع، تعلو فيه روح الموسيقي وأرواحنا، حيث احتشد الآلاف من مختلف الأديان والطوائف والتوجهات، لحضور الأمسية الإنسانية أو الموسيقية التي أقامها المطرب العالمي المسلم.

يوسف إسلام نموذج لهذه الكونية المتعايشة، فقد عبر بين الأديان والأفكار والثقافات، كان اسمه «كات ستيفز» قبل تحوله للإسلام، لكنه ظل محباً للاختلاف، عبر بالحب وبقي في الحب، يرفع الموسيقى كصوت ملتحم بالروح يسمعه كل إنسان مهما اختلف.

وهو ما ذكره في كتابه «لماذا ما زلت أحمل غيتاراً؟» حيث قال إن الموسيقى أصبحت ظاهرة كونية في عالمنا اليوم. والرائع انه اعتبر العودة إلى الدعوة عبر التناغم، وهو بذلك، يقدم صورة مختلفة عن الصورة السلبية في الذهنية الغربية. توقف لفترة من الوقت عن الإبداع الموسيقي بعد إسلامه، ولكنه عاد إلى ممارسة فنه الراقي بأغنيته الرائعة «قطار السلام» مذكراً كما قال: بعض من يتناسون بأن كلمة «اسلام» تمتد بجذورها إلى كلمة سلام، فعانقت الموسيقى الدين كما عانقته عند عدد لا بأس به من رموز الحضارة الإسلامية.

نرى يوسف إسلام بأفعاله قبل أقواله، يؤكد على عالمية رسالة الفن وجدواه وتأثيره الإيجابي، وهو يمثل نموذجاً صالحاً في مقابل الغالب من النماذج السيئة للفن غير الهادف والذي يملأ سماءنا ويؤذي أسماعنا وأبصارنا، إما بالحشو الفارغ أو الفن الهابط، بل والهادم في أحيان كثيرة.

سعدت بتلبية دعوته الكريمة مع نخبة من الأصدقاء لأمسيته، التي خصصت عوائدها لدعم الأطفال من اللاجئين السوريين، بينما كان موضوع اللاجئين أحد دوافع ومبررات اليمين البريطاني في طلب الانفصال عن أوروبا. وأعد يوسف اسلام أغنية خاصة لهذه المناسبة سمّاها «كان وحيداً» وتألق في إمتاع جمهوره الكبير بمجموعة من أغانيه القديمة الشهيرة والتي مازال يرددها ويستمتع بها. برأيي كان أجمل ما في الأمسية تلك القيم الإنسانية النبيلة التي روج لها يوسف إسلام وشهرته العريضة التي سخرها لهذا الغرض النبيل. وتشاركه في المهمة ذاتها، الممثلة العالمية إنجلينا جولي التي تقوم بدور هام وتبذل جهوداً جبارة في مساعدة اللاجئين.

في هذه المبادرة يتأكد أن الفن والموسيقى لغة ورابط كوني وعالمي ذات إسهام رئيس وجوهري في تخفيف الكثير من المعاناة التي تمر بها البشرية في بقاع عديدة من العالم، وبخاصة النساء والأطفال. الموسيقى لا تعرف الضجيج، ولا تصاحب الكراهية أو تغني لها، هي واحدة من أسس ثقافة إنسانية مشتركة تجتمع بين قيم المحبة والسلام والمودة والرحمة.

من هنا، أتصور أن المجتمع الإنساني أحوج ما يكون في هذه المرحلة لاستدعاء الفنون ونشرها وترسيخها، بديلا عن ثقافة الكراهية والعنف التي تجتاح العالم في موجة هستيرية غير مسبوقة بفعل الأيدولوجيات الدينية والعصبيات القومية والعنصرية.

هكذا، كان تجاوب الجمهور العريض، وخاصة البريطاني مع أهداف هذه الأمسية، والحملة التي أطلقها يوسف إسلام من خلال الحضور المكثف الذي شهدته القاعة، وكذلك في التجاوب الفعلي من خلال الإسهام والتبرع لصالح الأطفال اللاجئين، وهو ما يعكس أن الثقافة والفنون، بمختلف صورها وأشكالها وسيلة فعّالة للتواصل بين الأمم والشعوب.

Email