من الشاعر طاغور إلى أحداث المنيا

ت + ت - الحجم الطبيعي

ما العلاقة بين شاعر هندي عظيم، توفي منذ 75 عاماً، وبين أحداث قبيحة للغاية، وقعت منذ أيام قليلة في محافظة المنيا في مصر، وجديرة بإثارة الاكتئاب والفزع، وارتكبها أشخاص لا علاقة لهم البتة بالشعر والشعراء؟

ومع هذا، فقد تذكرت الشاعر طاغور، بمجرد أن سمعت بما حدث. أعترف أولاً بأني بمجرد أن رأيت في الصحف إشارة إلى خبر يتعلق بفتنة طائفية جديدة في مصر، وشعرت من عناوين الأخبار، بأن ما حدث هذه المرة أشد قبحاً من المعتاد، قررت الامتناع عن متابعة التفاصيل، إذ بدا لي أن الأمور إعادة بصورة أو أخرى، لما نعرفه من مظاهر الاحتقان في صعيد مصر على الأخص..

وإن كان الغضب والاحتقان قد تجاوز الحدود المألوفة، وتصادف أني كنت قد نشرت من قبل هذه الأحداث بأيام قليلة، مقالاً عن الشاعر طاغور، بمناسبة احتفالات السفارة الهندية بذكراه في الشهر الماضي، وكان مقالي يتعلق برأي طاغور في العلاقة بين الطوائف الدينية المختلفة، أبداه في زيارة له للقاهرة منذ 90 عاماً.

لفت نظري فيما نشر عن رأي طاغور في هذه الأمور، الرقي البالغ في موقفه، وقوته وحسمه في قوله، إن من الضروري ليس فقط أن يترك لكل صاحب دين أن يعبر عن معتقداته بحرية، فهذا بدا لطاغور أمراً بديهياً، ولكن أيضاً قوله إن تعدد المعتقدات الدينية من الأمور المرغوب فيها..

وإن مما يثري الإنسانية، أن تحتفظ بهذه المذاهب والأديان المختلفة التي عبرت بها الأمم والشعوب عن عواطفها وميولها المختلفة إلى الحق الذي لا حد له، وإن كل دين هو »طريق من الطرق التي تسلكها الإنسانية إلى المال والحق والمثل الأعلى«.

قلت لنفسي: »ألم يكن من الجميل أن يطلع الأفراد الذين استشاطوا غضباً ضد أفراد من دين آخر، ارتكبوا ما ارتكبوه من جرائم، على رأي طاغور في هذا الأمر، قبل وقوع هذه الأحداث؟، ولكن قلت لنفسي أيضاً، إن هذا طبعاً في حكم المستحيل.

إذ هل يمكن أن نتصور أن يعرف هؤلاء في ظل مستوى تعليمهم الذي نعرفه، والظروف التي يعيشون فيها، أي شيء من آراء الشاعر الهندي؟ ولنفرض أنهم سمعوا بهذه الآراء، فهل نتصور، بحكم ظروف معيشتهم هذه، أن يقتنعوا برأيه ويستجيبوا لدعوته؟.

تذكرت أن حديث طاغور في القاهرة، كان مع مفكرين مصريين كبار، من نوع الشاعر أحمد شوقي، وطه حسين والشيخ مصطفي عبد الرازق، ممن يتوقع المرء أن يتعاطفوا ويؤيدوا رأي طاغور في الخلاف العقائدي دون تردد. فهل كان من الممكن أن يتعاطف معه ويؤيده، وقت صدور هذا الحديث، أي في منتصف العشرينيات من القرن الماضي، أشخاص لم يحظوا بمثل ما حظي به هؤلاء المفكرون الكبار من ثقافة وتعليم، بل وأضيف أيضاً، ما حظوا به من سهولة الحياة، ويسر الحصول على الرزق؟.

الأهم من ذلك، ما حدث لمصر منذ ذلك الوقت، أي خلال التسعين عاماً التي مرت منذ زيارة طاغور للقاهرة. إذا استعدنا إلى أذهاننا ما مرت به مصر منذ عشرينيات القرن الماضي، ليس من الصعب أن نتبين أشياء حدثت في هذه الفترة، مما يمكن جداً أن تكون مسؤولة عن هذه النتيجة التي وصلنا إليها.

قد نختلف في التفسير أو في درجة الأهمية التي نعلقها على هذا العامل أو ذاك، ولكننا سوف نتفق على أن هذا التدهور له علاقة بما حدث من تدهور في نوع التعليم الذي تلقاه المصريون خلال هذه الفترة، وفي ظروف الحياة المادية التي تعيشها نسبة كبيرة من المصريين، وتغير العلاقة بين الطبقات الاجتماعية، ما انعكس بالطبع في نظام الحكم.

أسباب التدهور في نوع المشاعر ونمط التفكير، ليس من الصعب اكتشافها، ولكن من الخطأ أن نتصور أن علاجها يمكن تحت الشعارات التي تتردد كثيراً في هذه الأيام، كتجديد الفكر الديني، أو التجديد الثقافي، أو قيام المثقفين بمسؤولياتهم، أو حتى إصلاح نظام التعليم... إلخ.

كل هذا مفيد ومطلوب، ولكنه أشبه بحفنة ملح تلقى في بحر واسع. إن الذين يظهرون كل هذه القسوة والغلظة في التعامل مع المنتمين لدين مختلف عن دينهم، مشكلتهم ليست أنهم أخطؤوا في التفكير (وإن كان هذا موجوداً أيضاً)، ولكن أنهم يعانون من مشكلات نفسية وعصبية عويصة، نتيجة لمشكلات اجتماعية مختلفة، لا يمكن علاجها بمجرد الموعظة الحسنة.

 

Email