نار الطائفية وحال العرب

ت + ت - الحجم الطبيعي

لم يكن يُتصور ما آل إليه حال العرب - باستثناء دول الخليج العربي - من تراجع مخيف على كل الصعد.

وفي تصوري أن أكبر تحد يواجه الوجود العربي والنسيج المجتمعي للدول العربية، هو الطائفية التي تنتشر مثل النار في الهشيم.

ربما أنتمي إلى جيل محظوظ، لم يكن يشعر البتة بالنعرات الطائفية أو المذهبية بحكم طبيعة النشأة في بيئة منفتحة متسامحة مع الأديان والمذاهب والطوائف على اختلافها وتنوعها، وأكاد أجزم بأن جناية ما يسمى بـ«الإسلام السياسي» بشقيه السني والشيعي، واضحة في تأجيج الطائفية وتراجع قيمة الدولة الوطنية وهويتها. بدءاً بأدبيات وأفكار منظري الإخوان المسلمين وتنظيمهم البائس، مروراً بالثورة الإيرانية المشؤومة في 1979، وانتهاء بطغيان الجماعات الإرهابية، وتغول الميليشيات المسلحة التي تفرخت عن هذا الإسلام السياسي.

في سبعينيات القرن الماضي عربياً وإسلامياً، من الخميني إلى ضياء الحق في باكستان، إلى أحداث الخانكة والزاوية الحمراء في مصر، منذ ذلك التاريخ. بدأ الانحدار من مفهوم الدولة المدنية إلى كيانات متعصبة دينياً، ما أفسح المجال لظهور التشدد والتنظيمات المتطرفة والميليشيات المسلحة العنيفة المتشددة التي تحرم منجزات الحضارة وتعادي من لا ينتمي إلى دينها أو طائفتها أو مذهبها.

في زمن الازدهار الفكري الإنساني، كانت «مصر لكل المصريين» صيحة المصريين ضد المستعمر، وباكستان لكل المسلمين منذ أسسها محمد علي جناح، الملقب عند الباكستانيين بـ«قائدي أعظم»، والذي كان رمزاً وطنياً قبل أن يكون منتمياً إلى الطائفة الشيعية، ولعائلة مشهورة فيها هي عائلة إسماعيلي خوجة، كما كانت إيران تزخر وتغني بشعر سعدي السني كما تزخر بشعر الفردوسي والشاهنامة.

نجحت ثورة الخميني في إيران عام 1979 في تأسيس أول دولة لتنظيم إسلامي وجهادي طائفي، قبل «داعش» وغيره، وأحيت المذهبية على أساس عنصري، وشرعت في تكوين الميليشيات الطائفية تحت شعار «تصدير الثورة» الذي كان أول عقائدها كما أعلن الخميني نفسه.

صدرتها إلى لبنان بشكل سافر من خلال ما يسمى «حزب الله»، وكذلك إلى عدد آخر من الدول العربية. والشواهد على ذلك واضحة تماماً. وجاء الغزو الأميركي للعراق عام 2003 ليمكن إيران - كما هو معلوم - من التسلل إليه، وترسيخ أقدامها فيه، والعبث بنسيج الدولة الوطنية، وتفكيكها على أساس طائفي لايزال العراق ينزف دماً ويدفع ثمنه غالياً.

حذر كثيرون من عواقب الطائفية وإحياء الخلافات المذهبية، ولعل أبرز هؤلاء الشيخ أحمد الوائلي، رحمه الله، الذي راعه بث خطاب التحريض والكراهية الدينية، وخاصة النيل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، منذ أكثر من عشرين عاماً. وكأنه كان يتمثل قول الشاعر:

أرى تحت الرماد وميض جمر ويوشك أن يكون له ضرام

صوت العقل والحكمة والحق هذا، لم يجد - مع الأسف - آذاناً صاغية، وجر أصحاب الأجندات الشريرة المنطقة بأسرها إلى شفير التفكك والانتحار. والمشهد العربي الحالي حافل بالبؤس والشقاء والتشرذم نتيجة استفحال سرطان الطائفية في مواطن كثيرة من هذا الجسد العربي والإسلامي المنهك. والمستنزف بتشدد يكاد يقسم مجتمعاته ودوله.

يهمنا في هذا السياق ألا تنجر الدول العربية الأخرى إلى هذا المنزلق الخطير. ومعلوم أنه لا سبيل لحماية الدولة وكيانها إلا بتعزيز اللحمة الوطنية وتقوية مؤسساتها.

وكذلك جعل الانتماء الوطني الأساس والوحيد، حيث لا يمكن أن ينازعه ولاء آخر. والهوية الوطنية لا غير، تتطلب جهداً كبيراً في تعزيز عناصرها، وذلك من خلال المناهج التعليمية وتنقية الخطاب الديني من الشوائب التي تفرق بين بني الوطن الواحد، ويتماشى مع هذا الخط بطبيعة الحال، إعلاء القيم الإنسانية ومبادئها في التسامح والتعايش والتعارف. يضاف إلى ذلك، سن التشريعات التي تحرم وتجرم خطاب التحريض والكراهية، وهذا ما فعلته دولة الإمارات منذ عامين في خطوة استباقية لحماية الوطن وتعزيز حصانة أبنائه.

حمى الله أوطاننا من هذه الفتن وأدامها منارة مشرقة للإنسانية وقيمها النبيلة.

Email