الفضائيات وتسويق الوهم

ت + ت - الحجم الطبيعي

حينما بدأ برنامج المسابقات (من سيربح المليون)، اكتسب شعبية من خلال جدته بالنسبة للمشاهد العربي، وقد أظهر إعلان ترويجي له شوارع إحدى المدن العربية، خلواً من الناس، وكأنها مدينة مهجورة، لأن كل الناس يتابعون البرنامج. وتوقف ذلك البرنامج لسنوات، بعد أن أصبح مقدمه الإعلامي المميز جورج قرداحي، نجماً أفاد من نجوميته، وأصبح يسوق سلعاً باسمه. بل وطالب أحد ضيوف برنامج تلفزيوني لبناني، أن يتم ترشيحه رئيساً للجمهورية، بدلاً من السياسيين الذين تتردد أسماؤهم للمنصب.

وفي حقيقة الأمر، أن هذه المسابقات لا تقدم ثقافة كما يتوهم البعض، بل هي معلومات، ليس من يمتلكها يكون مثقفاً، وليس من لا يعرفها يكون جاهلاً أو غير مثقف. إذ إن حفظ أسماء أو تواريخ أو مواقع جغرافية، لا يميز المثقف عن غير المثقف، بمقدار ما يعين على اكتشاف قوة الذاكرة في الحفظ، ليس أكثر من ذلك.

ومع انتشار مثل هذه البرامج، أصبح هناك سوق رائجة لكتب سؤال وجواب، التي تحوي على معلومات دون قيمة معرفية أصيلة، بل هي قشور المعرفة. فمعرفة عاصمة زيمبابوي - مثلاً - لا يعني فهماً لجغرافيتها ولا لنظامها السياسي، ولا يعني معرفة شيء عن ثقافة شعبها، ولا ماذا يجري على أرضها.

تقدم الأسئلة أجوبة بأسلوب الخيارات، وهناك عوامل مساعدة، لتجعل المشترك في المسابقة، يحصل على شيء من الجوائز المقررة، هذه الجوائز المقررة لم تدفعها المحطات، بل دفعها أولئك الباحثون عن الوهم والباحثون عن مناجم الذهب، في أرض مستنزفة أصلاً، تعتمد هذه الجوائز على المكالمات الهاتفية، التي تستنزف جيوب الذين يرغبون في المشاركة..

والذين يحاولون مرة ثم أخرى، ثم أخرى، دون الوصول إلى فرصة الدخول في المنافسة. أخبرني أحد الذين حاولوا الوصول إلى حلبة المنافسة، أن سقف فاتورته لمحاولة الاتصال من هاتفه الجوال، كلفته كثيراً وهو يجرب وينتظر، ويأخذون منه المعلومات عن شخصه، قبل أن يستطيع التواصل... إلخ.

هذه هي المسابقات، محسوبة على الثقافة، دون تقديم ثقافة، وتقترح المنافسة، دون أن تفسح المجال للمنافسة الحقيقية، حيث يتم اختيار المشاركين، بناء على جنسياتهم، وليس على إسهاماتهم.

لماذا إذن لم يعد للمسابقات ذلك البريق الذي كان لها، ولماذا تضاءل اهتمام الجمهور بها؟، لعل أهم الأسباب، أن هذه المسابقات كانت تبيع للجمهور وهم امتلاك الملايين، ووهم امتلاك الذهب.

وقد شاع اليوم نوع آخر من بيع الوهم في الفضائيات العربية، تستهدف جيوب الفقراء والغلابة، وذلك بمخاطبة أحلامهم بحل مشكلاتهم المالية، وهو الوعد بامتلاك الذهب والسيارات الفارهة والشقق والدراهم الكثيرة، والمطلوب من الجمهور الإجابة عن سؤال واحد، ويخاطبوننا (اتصل واربح، أو أرسل رسالة نصية على الأرقام التالية)، وكي تقنع الفضائيات جماهيرها الفقيرة بالمشاركة، يخرج إلينا مذيعوها ليستحثوا على المشاركة، مدعمين مصداقياتهم (المشبوهة)، بشهادات ممن فازوا.

ويلفت انتباهنا تنوع دول الفائزين، وكأن الحظ موعود أن يحط رحاله في كل جولة في بلد. وذلك لاكتساب المزيد من المشاركين من كل أرجاء الوطن العربي. وهكذا تقوم الفضائيات وشركات الاتصالات بتحالف غير معلن لبيع الوهم للفقراء، بهدف تكنيس جيوبهم من دراهمهم المعدودة، وتكديس تلك الأموال في خزائن الفضائيات وشركات الاتصالات.

هذه لعبة أخرى من ألعاب الفضائيات.. إلى متى تلعب بنا، ونحن نقبل ذلك..؟

 

Email