إنقاذ الرأسمالية من أنصارها

ت + ت - الحجم الطبيعي

هذا كتاب جديد ومهم، لاقتصادي أميركي شهير هو»روبرت رايخ«، الأستاذ في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، الذي شغل لسنوات عدة منصب وزير القوة العاملة في عهد الرئيس كلينتون.

نشرت له من قبل كتب مهمة عدة تشرح وتعلق على ما طرأ على النظام الرأسمالي الحديث من تغيرات، أو تفسر الأزمة الاقتصادية الراهنة، أو تتنبأ بمستقبل الاقتصاد الأميركي، وقد حازت كلها نجاحاً مبهراً. وها هو الآن يضيف كتاباً جديداً ليس أقل من كتبه السابقة في العمق أو السلاسة أو قوة الحجة.

اسم الكتاب الأخير »إنقاذ الرأسمالية«، لكن عنوانه الفرعي هو الذي يبين ما يرمي إليه الكاتب، »من أجل الكثرة لا القلة« (For the many not the few)، إنه لا يدعو إلي التخلي عن الحافز الفردي كونه دافعاً أساسياً في النظام الاقتصادي، لكنه يرى ضرورة تدخل الدولة لصالح غالبية الناس.

في هذا الاتجاه العام يشترك هذا الكتاب مع ذلك الكتاب الآخر المهم، الذي أثار ضجة كبيرة في العام الماضي، للاقتصادي الفرنسي توماس بيكتي، وهو كتاب »الرأسمالية في القرن الحادي والعشرين«. فكلاهما ينتصران للغالبية ضد القلة القابعة علي قمة المجتمع، ويناديان بتدخل أكبر من جانب الدولة لتحقيق هذا الهدف، ولكني وجدت كتاب رايخ أكثر إشباعاً وربما أيضاً أكثر أهمية من كتاب بيكتي.

لقد كتب روبرت رايخ كتابه بعد كتاب بيكتي وهو يشير إليه، ويقبل نتائجه، ولكنه يهدف إلى تبديد وهم مختلف تماماً. وهم هذه المرة أكثر رسوخاً وأشد خطورة، وهو وهم لا تبدده الإحصاءات والتفكير. ويتلخص في ذلك الاعتقاد الراسخ أن ما يجري في البلاد الرأسمالية هو »النظام الطبيعي«، أي الذي تفرضه طبيعة الأمور، أو أن هناك شيئاً »مصطنعاً«.

ومن ثم مذموم، في التدخل لتعديل مساره، كأننا إذا مارسنا هذا التدخل نحاول تغيير مسار الكرة الأرضية أو حركة النجوم. إن أي محاولة لتغير مسار الرأسمالية، مستحيلة التحقق، لأنها تتحدى الطبيعة الإنسانية..

ولا بد أن تبوء بالفشل (كما ظهر منها بسقوط التجارب الاشتراكية، الواحدة تلو الأخرى في الثلاثين عاماً الأخيرة). لا عجب أن كتاب آدم سميث (ثروة الأمم) حظي بكل هذا الترحيب منذ صدوره من جانب أنصار النظام الرأسمالي والمستفيدين منه، إذ إنه باعتباره هذا النظام »النظام الطبيعي« الذي لا جدوي من تحديه، وكأنه قد قدم حجة لا تضاهيها حجة أخرى في القوة.

إن روبرت رايخ ليس بالطبع أول من ينبه إلى فساد هذه النظرة، فقد نبه كثيرون قبله إلى الطابع التاريخي للنظام الرأسمالي، وبينوا الأسباب التاريخية لنشوئه، وقدم بعضهم أسباباً تاريخية أيضاً لحتمية انهياره، ولكني وجدت في كتاب روبرت رايخ شرحاً رائعاً ومبتكراً، لسبب مهم لفرض اعتبار النظام الرأسمالي مجرد استجابة لنوازع طبيعية، إذ بين أن هذا النظام هو إلى حد كبير نتيجة لتدخل كبير..

ومستمر من جانب الدولة لصالح القلة على حساب الكثرة، من ثم فالخلاف بين نقاد الرأسمالية وأنصارها ليس في الحقيقة كلاماً حول إذا كان تدخل الدولة يحسن أن يكون كبيراً أو صغيراً، بل هو حول طبيعة هذا التدخل والغرض منه.

المشكلة إذاً على حد تعبير رايخ، ليست في درجة التدخل الحكومي، بل في الغرض من هذا التدخل، ومن ثم فهو يقتطف ويريد قول المؤرخ الاقتصادي الشهير كارل بولاني: »إن الذين يدعون إلى تقليل تدخل الحكومة، يدعون في الحقيقة إلى وجود حكومة من نوع مختلف أي من النوع، الذي يتحيز لهم ويعمل لحسابهم«.

بناء على ذلك فإن الذي حدث في الولايات المتحدة مثلاً ابتداء من الثمانينيات، ليس كما يصفه أنصار الرأسمالية »العدول عن سياسة التدخل الحكومي«، بل هو في الحقيقة »تغيير لنوع التدخل الحكومي«، إذ إن تدخل الحكومة قد استمر..

ولكن حدث بعض التغير في قواعده فسمح أولاً للبنوك (وول ستريت) الكبرى المضاربة والإفراط في المغامرة (ما دامت تحقق من ذلك ربحاً وفيراً)، بما في ذلك تقديم القروض لأشخاص لا يستطيعون الوفاء بها، كما وقعت الواقعة في 2008 (أي انفجرت الفقاعة كما يقولون) بحدوث الأزمة الاقتصادية، وضعت الحكومة من القواعد ما من شأنه أن يحمي البنوك الكبرى (مرة أخرى)، وتقديم الدعم لها، وليس لصغار المقترضين)، حتى لا تضطر هذه البنوك إلى إعلان إفلاسها.

»السوق الحرة« إذاً ليست إلا خرافة، الغرض من نشرها، والترويج لها هو أن نغض البصر عن محاولة فحص القواعد، التي تضعها لصالح فئة قليلة من الناس، وعن هوية المستفيدين منها.

بناء على هذا، ينتقد روبرت رايخ كتاب بيكتي (رأسمالية القرن الحادي والعشرين) ليس لخطئه في ما وصل إليه من نتائج، بل لأنه لم يذهب إلى أبعد مما ذهب لتفسيرها. إن بيكتي يقول إن الاتجاه نحو مزيد من اللامساواة سوف يستمر طالما استمر العائد على رأس المال ينمو بمعدل يفوق معدل الناتج القومي، ولكنه لا يفسر لماذا العائد على رأس المال في النمو بهذا المعدل. إن رايخ يقول، إن السبب هو استمرار سيطرة رأس المال علي الحياة السياسية.

 

Email