أزمة الانفصال بين القرار السياسي والبحث الاجتماعي

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا توجد سياسة فاعلة وناجحة وقادرة على اختراق المشكلات المعقدة، دون اعتمادها على معطيات البحث العلمي والاجتماعي، وهو ما تعاني منه الكثير من الدول والأنظمة والنخب السياسية الحاكمة، خاصة في عالمنا العربي، وذلك لأن السياسات الاجتماعية والقرارات السياسية وآليات العمل والتدابير، هي حزمة متكاملة، ولكي تكون فاعلة في تحقيق الأهداف المراد تحقيقها، لا بد أن تعتمد على عديد من الشروط السياسية والعلمية، يمكن إيجاز بعضها في ما يلي:

1 - وجود طلب سياسي فعال من قبل النخبة السياسية الحاكمة على المعرفة والإنتاج البحثي في مختلف المجالات الاجتماعية والسياسية والثقافية.

2 - أن تعتمد عمليات صنع القرارات السياسية، على التعاون والتكامل والتنسيق بين أجهزة الدولة المعلوماتية، ولو عند حدودها الدنيا، في مراحل الاستقرار السياسي والأمني والاجتماعي، وعلى أعلى مستويات التكامل والتنسيق في المهام في لحظات الأزمات الكبرى والاضطرابات، لأن الفشل في إدارتها سوف يؤدي إلى مشكلات كبرى، قد تعصف ببعض أجهزة الدولة.

3 - القدرة على التجدد الفكري والسياسي لدى قادة النظام وأجهزة الدولة، وليس الاعتماد فقط على بعض الرأسمال الخبراتي للبيروقراطية، الذي يتسم بالجمود والركود.

4 - وجود سياسة علمية في مجال العلوم الاجتماعية، تعتمد على خطط بحثية مستمرة، للتعامل مع المشكلات البنائية الكبرى، وما يتفرع عنها من مشكلات.

5 - وجود مؤسسات ونظم وتقاليد لإجراء استقصاءات للرأي العام واتجاهاته لمعرفة الاستمرارية والتغير في آراء المواطنين إزاء النظام والنخبة، وشرعية وجودها السياسي ومصادر تأييدها داخل التركيبة الاجتماعية والعمرية والسياسية في البلاد، وذلك كي تستطيع النخبة الحاكمة أن تتكيف مع هذه التغيرات في توجهات الرأي العام، وتعرف أسباب تناقص التأييد السياسي والاجتماعي لها ولسياساتها..

ويمكنها إعادة النظر في بعض توجهاتها واختياراتها، وترميم الشروخ في نظام الشرعية السياسية لصالحها، ولا تعتمد فقط على التقارير التي تقدمها الأجهزة الأمنية والاستخباراتية فقط، لأنها تكون محكومة باعتبارات وضوابط وظيفية، ومصالح، وتوجهات القائمين على كتابة هذا النمط من التقارير، ورغبتهم في عدم إزعاج صانع القرار الأول في النظام الحاكم في بعض الأحيان.

6 - ارتباط سياسة البحث العلمي في مجال العلوم الاجتماعية بالاستقلالية في أداء الأعمال المنوطة بها، وفى اختياراتها لموضوعات البحث.

7 - ضرورة إتاحة مصادر المعلومات الدقيقة أمام جهات البحث المختصة من قبل أجهزة الدولة والحكومة، دون حجب لبعضها تحت منطق أمن المعلومات، طالما لا تمس الجوانب العسكرية أو الأمنية أو الاستخباراتية ذات الحساسية والماسة بالأمن القومى.

8 - إسناد بعض مهام إعادة تأهيل وتكوين بعض كوادر الدولة وأجهزتها من الأجيال الشابة والمتوسطة الأعمار إلى بعض مراكز ومؤسسات البحث الاجتماعي والسياسي والاستراتيجي، في إطار خطة منظمة ومستمرة لتجديد مناهج تفكيرهم ومعلوماتهم وطرائق تعاملهم مع الظواهر والمشكلات الاجتماعية والسياسية الجديدة.

أما الأجيال الأكبر سناً من قيادات الدولة، يمكن اللجوء إلى ورش العصف الذهني بين الحين والآخر، وعلى نحو منتظم، لتوليد التجدد الفكري إزاء ظواهر جديدة.

9 - العروة الوثقى بين عمليات صناعة السياسات والقرارات السياسية، وبين البحث العلمي، تؤدى إلى تخفيض الآثار السلبية للعقل البيروقراطي التكنوقراطي في مقارباته للمشكلات والظواهر، من حيث الميل إلى أساليب المعالجات التقليدية الموروثة داخل كل جهاز من أجهزة الدولة.

10 - اعتماد صناع القرارات السياسية عند القمة على معطيات البحث الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي، أثناء اتخاذ القرارات، يؤدى إلى التقليل من دور العوامل الشخصية والنفسية.

إن هيمنة سياسة اللا سياسة، كما سبق لنا الإشارة مراراً، أدت إلى إهمال دور البحث العلمي والاجتماعي في عمليات صنع السياسات واستراتيجيات العمل، وآلياته، وتدابيره، في ظل التسلطية السياسية في العديد من مجتمعاتنا العربية، والأخطر، إهمال قيمة المعرفة العلمية، والبحث الاجتماعي والسياسي للدولة والنظام والمجتمع، وترتب على ذلك نتائج سلبية مختلفة، يمكن الإشارة إلى بعضها في ما يلي:

1 - استمرارية الأجهزة البيروقراطية في تسييد نمط من المناورة والمداراة في تعاملها مع الظواهر والمشكلات والأزمات الاجتماعية والسياسية والإدارية، وذلك تهرباً من المسؤولية الإدارية، بل والجنائية في بعض الأحيان.

2 - سيطرة الكسل الذهني، وضعف الخيال الإداري، وتراجع العمل الجاد والمسؤول في قطاعات الدولة وأجهزتها، ونقص الحرفية والتخصص الوظيفي.

3 - تدهور مستويات اللغة السياسية والخطاب السياسي الرسمي والبيروقراطي، وغلبة العفوية والتفسيرات الساذجة للظواهر والمشكلات لدى بعض الوزراء ورجال الحكم في أعلى المستويات.

إن الانفصال بين السياسة والقرار والبحث العلمي والاجتماعي، شكّل، ولا يزال، أحد أسباب تدهور مستويات النخبة السياسية الحاكمة ومعارضاتها، في العديد من المجتمعات.

 

Email