في عام 2006، صنفت مجلة «بيزنس ويك» الواسعة الانتشار في عالم الأعمال مملكة بوتان الواقعة في جنوب آسيا في الطرف الشرقي من جبال الهملايا المكان الأكثر عزلة عن العالم، التي قلما يرد ذكرها في وسائل الإعلام، بأنها أسعد بلد في آسيا، ووضعتها في المركز الثامن بين أسعد البلدان في العالم..
وذلك استناداً لدراسة ميدانية أجرتها جامعة لستر البريطانية في العام نفسه، أسمتها «خريطة السعادة في العالم». أبانت تلك الدراسة بأن ثقافة العزلة والشعور القوي بالهوية الوطنية هو أحد أهم أسباب الرضا بين مواطني هذه المملكة، في إشارة إلى التكافؤ بين مشاعر الرضا ومشاعر السعادة.
إلا أن خريطة السعادة أو الرضا، والأفكار الكامنة في ثناياها، اتخذت بعداً هاماً على المستوى الدولي، حين اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة في يوليو 2011 قراراً باعتبار العشرين من مارس يوماً عالميا للسعادة، وذلك في ضوء اقتراح قدمه رئيس وزراء مملكة بوتان دعا فيه الدول الأعضاء في المنظمة الدولية إلى قياس سعادة شعوبهم لاستخدامها كمؤشر هام في رسم السياسات العامة.
الأمين العام للأمم المتحدة، عقّب على هامش هذه الدورة الاستثنائية، قائلاً إن «العالم بحاجة إلى نموذج اقتصادي جديد يحقق التكافؤ بين دعائم الاقتصاد الثلاث: التنمية المستدامة والرفاهية المادية والاجتماعية وسلامة الفرد والبيئة، ويصب في تعريف ماهية السعادة العالمية».
ومنذ ذلك الحين، يصدر تقرير سنوي حول خريطة السعادة في العالم عن شبكة حلول التنمية المستدامة التابعة للأمم المتحدة، وذلك اعترافاً بأهمية السعي نحو إسعاد الإنسان فرداً ومجتمعاً، كجزء من عملية تقويم أطر السياسات العامة لتحقيق التنمية، والقضاء على الفقر وتوفير حياة أفضل للشعوب، فقد أصبح مستوى السعادة لدى الشعب مقياساً لمدى تقدمه المجتمعي.
المؤشرات المعتمدة لقياس السعادة لدى المنظمة الدولية تتضمن: متوسط عمر الفرد، حجم الرعاية الاجتماعية، سعة وتنوع الخيارات المتاحة، تدني مستوى الفساد، درجة تراجع اللامساواة بين المواطنين، مقدار دخل الفرد من إجمالي الناتج المحلي. ويرى المشرفون على إعداد التقرير السنوي بأن السعادة مقياس أفضل من المعايير التقليدية التي تستخدم لقياس حجم التنمية والتي تشمل التعليم والصحة والفقر والدخل والإدارة الحكومية.
في هذا السياق، صدر أخيراً في روما تقرير السعادة العالمي لعام 2016، تصنفت في ضوئه 157 دولة في خريطة السعادة الدولية، احتلت الدنمارك المركز الأول، وجاءت سويسرا بالمركز الثاني، واحتلت بوروندي المركز الأخير وسوريا المركز الذي قبله. ما يجلب الانتباه في هذا التقرير هو أنه على الرغم من أن الدول العشر الأولى هي من الدول الغنية..
وأن الدول العشر الأخيرة هي من الدول الفقيرة، أو التي أفقرتها ظروفها السياسية كما هو حال سوريا، إلا أن درجة الغنى ليست بالضرورة درجة أعلى في سُلم السعادة.
فالدنمارك التي احتلت المركز الأول تشغل الموقع الحادي والعشرين في حجم الناتج المحلي للفرد الواحد، وفق تقرير صندوق النقد الدولي والمركز السابع عشر وفق تقرير البنك الدولي. في حين تحتل سويسرا، التي جاءت ثانية في السعادة الدولية، المركز التاسع في حجم الناتج المحلي للفرد الواحد في تقرير صندوق النقد الدولي والمركز الثامن في تقرير البنك الدولي.
ولكن الحديث عن السعادة بهذه الطريقة العمومية يتطلب بعض التوقف، فمستوى سعادة شعب وفق معايير المنظمة لا يمكن إسقاطه على مستوى سعادة أحد أفراده، فعلم النفس الذي يُعنى بالعالم الذاتي للإنسان له مفاهيم ومعايير أخرى لمعنى السعادة.
فقد طرأ في العقد الأخير من السنين تغيراً ملحوظاً على استراتيجيات هذا العلم، حيث أصبح يبدي بعض الاهتمام بما يتعلق بالازدهار الإيجابي في الحالة النفسية للفرد، ازدهار يفرز طاقة إيجابية متفتحة للحياة ومؤهلة للبناء، في حين اقتصرت رؤاه واهتماماته على مدى قرون عديدة على الناحية السلبية التي تتلبس الإنسان وتقعده عن الإسهام في البناء..
والتي تتمثل بطغيان مشاعر القلق والاكتئاب والعزلة وانصرف المختصون إلى معالجة هذه الحالات، إضافة إلى تداعيات الصدمات النفسية.
وقد عززت الأبحاث في علم النفس الرؤى التي تشير إلى أن مستوى السعادة يتحدد نتيجة تفاعل معقد بين الجينات والممارسات السلوكية، وما يحدث في حياتنا في لحظة زمنية معينة تشعرنا بالراحة، مثل المساهمة الطوعية في أعمال خيرية أو الإسهام إيجابياً بحملة جمع التبرعات أو اتخاذ موقف تسامحي أو غير ذلك الكثير. أما الظروف الخارجية التي تشكل رابطة الفرد بالمجتمع، فهي لا تشكل سوى نسبة بسيطة في مستوى سعادة الفرد يقدرها بعض الباحثين بما لا يزيد على 10 في المائة.
علم النفس الإيجابي، الذي غالباً ما يشار إليه على أنه علم السعادة، يهتم بالبحث عن الأفكار والأفعال والسلوكيات التي تجعل الفرد أكثر إنتاجية في العمل،..
وأكثر سعادة في علاقاته مع الغير وأكثر قرباً إلى خصائص الفضيلة. علم النفس هذا لا يغض الطرف عن المعاناة أو الأمراض النفسية، ولكنه يشجع الأفراد والمجتمعات على تبني الممارسات التي تعزز روح التفاؤل والسلوك الذي يتسم بالمرونة وكل ما يطلق مشاعر البهجة والأمل من عقالها.
خريطة السعادة لم يمضِ على اعتمادها سوى سنوات قليلة، ولا شك أن المعايير التي وضعت لرسمها ستصبح أكثر موضوعية ودقة في المستقبل، خاصة إذا أسهم المختصون في علم الاجتماع وعلم النفس بإثراء هذا الموضوع الفائق الأهمية.