كل هذا الكلام عن المساواة

ت + ت - الحجم الطبيعي

أتساءل أحياناً عن سر كل هذا الحماس الشديد لمبدأ المساواة. فما الرائع بالضبط في تحقيق المساواة الكاملة بين الناس؟.

يصدر كتاب منذ عامين لاقتصادي فرنسي بعنوان (رأس المال في القرن الواحد والعشرين)، فيهتز له العالم، لأنه قدم إحصاءات تدل على زيادة درجة اللا مساواة في توزيع الدخل والثروة، في كثير من دول العالم، خلال القرنين الماضيين. فما يا ترى الدرجة المطلوبة من المساواة في الدخل والثروة، التي يريد المؤلف أو نريد نحن أن تسود العالم؟

ألا يجب علينا الاعتراف بأن حياتنا تفقد الكثير من جاذبيتها لو سادت فيها المساواة التامة؟ ألا يقوم بعض من أقوى المشاعر الإنسانية على نوع أو آخر من المساواة؟ كالطموح إلى الأفضل، والرغبة في الترقي أو الشهرة، أو إلى تحقيق المزيد من المال أو السلطة؟ ألا يعتمد كل من هذه المشاعر على رغبة في التفوق، أي في اللا مساواة؟.

هل نفضل أن تسود الموسيقى الرتيبة (التي نصفها بالبدائية)، والتي يتكرر فيها نفس الصوت بنفس الطول ونفس القوة أو الضعف دون أي تغيير، أي تتساوى فيها النغمات والمسافات في ما بينها؟، أم نفضل عليها موسيقى أقل رتابة ومليئة بالمفاجآت، أي باللا مساواة؟.

وهل نحب أيضاً أن يعامل الطفل الصغير أباه أو أمه نفس المعاملة التي يعاملانه بها؟، هل المساواة مطلوبة هنا أيضاً؟، وما يا تري سر تلك الحماسة المنقطعة النظير التي نتابع بها المباريات الرياضية، فنتلهف إلى انتصار فريق على آخر؟، هل هي لهفة على تحقيق المساواة أم اللا مساواة؟

هل نتصور أن فلاسفة اليونان كان من الممكن أن ينتجوا أعمالهم الفلسفية العظيمة، لو لم يسُد في وقتهم نظام الرق (وهو نظام كانوا يؤيدونه ويعتبرونه نظاماً طبيعياً)؟، وهل كان يمكن للفراعنة أن يبنوا الإهرامات، لولا خضوع آلاف المصريين لنظام السخرة؟

هل كنا نتوقع أن موسيقياً عظيماً مثل موزارت، كان يمكن أن ينتج روائعه الموسيقية لولا ما كان يطمع فيه من رضا وسخاء الملوك والأمراء؟، أو أن يكتب تولستوي رواياته الرائعة، لولا ما كان يتمتع به من فراغ، بسبب ما كان يحيط به من أقنان وخدم وحشم. وإلا، فلماذا يا ترى لم يظهر له مثيل في روسيا السوفييتية الأكثر مساواة؟.

أعوذ بالله من أن يكون هدفي تحبيذ نظام الرق أو الإقطاع أو السخرة أو ما شابهها. ولكني فقط أتساءل، عما إذا كانت المساواة التامة يمكن أن تعتبر هدفاً صالحاً، أو تستحق كل هذا الحماس؟.

نعم، لا بد من الاعتراف بأن الناس متساوون (أو متقاربون جداً) في الحاجة إلى ضروريات الحياة، خاصة إذا تساووا في السن وفي البيئة الطبيعية، كالحاجات إلى الغذاء والكساء والمأوى، ومن ثم إلى العلاج أيضاً، وقد نضيف التعليم، إذا قبلنا مقولة طه حسين أنه كالماء والهواء.

أما في ما عدا هذا من مطالب الناس، فيصعب القول بتشابههم، ومن ثم، يصعب تبرير الدعوة إلى المساواة بشأنها. والعدل على كل حال، لا يعني دائماً المساواة، بل كثيراً ما يعني اللا مساواة في المعاملة.

نشرت إحدى المجالات مؤخراً، إحصائية تقول إن 1 % من سكان العالم، يملكون وحدهم من الثروة ما يملكه الـ 99 % الباقون. فلماذا بالضبط ننزعج انزعاجاً شديداً من مثل هذه الأرقام؟.

هل نشعر بالرضا لو أصبح كل 10 % من سكان العالم يملكون 10 % من ثروة العالم، لا أكثر ولا أقل، وكل 1 % يملكون 1% منها؟، هل هذه الدرجة من المساواة، هي التوزيع الأمثل للثروة في نظرنا؟ فإن لم تكن، فما الدرجة المثلى؟.

لا بد أن نلاحظ أن هذا الحماس لمبدأ المساواة، ظاهرة حديثة جداً في التاريخ الإنساني، كما يظهر حتى من الأمثلة القليلة التي ذكرتها. لم تكن المساواة شيئاً مرغوباً فيه في الحضارة الفرعونية، وفي اليونان القديمة، ولا في أوروبا في العصور الوسطى، وفي الحضارة الإسلامية، ولا في عصر النهضة الأوروبي.

وإنما بدأ هذا الحماس للمساواة في ما يسمى بعصر التنوير في أوروبا في القرن الثامن عشر. فهل يا ترى في ذلك العصر شيء جديد لم يكن معروفاً أو مألوفاً من قبل، جعل الناس أكثر استعداداً لقبول مبدأ المساواة، ومن ثم شاعت الفكرة، وأحدثت ضجة بالغة، بمجرد أن دعا إليها بعض المفكرين أو المصلحين السياسيين؟.

لا بد أن يكون قد حدث شيء كهذا. ومع ذلك، فلا بد أن نلاحظ أيضاً، أنه على الرغم من كل ما أحدثته الدعوة إلى المساواة من ضجيج (بما في ذلك بعض الثورات الكبرى)، وكل ما كتب في المطالبة بها والدفاع عنها، كان تحققها في الواقع نادراً جداً.

كان الكلام عنها أكثر بكثير من تطبيقها في الواقع. (وهذا هو بالطبع ما كان) يقصده جورج أورويل من الشعار الذي رفعه الثوريون في روايته (مزرعة الحيوانات)، «كل الحيوانات متساوية، ولكن بعضها أكثر تساوياً من غيرها!».

Email