تجديد النخبة وسياسة الأبواب المفتوحة

ت + ت - الحجم الطبيعي

الدرس التاريخي للسياسة والنظم المقارنة، تشير إلى أن تجديد النخب الحاكمة يسهم في إضفاء الحيوية والحركية في التفكير السياسي..

وفى الأداء متمثلاً في صياغة السياسات العقلانية التي تتوازن فيها المصالح الاجتماعية والسياسية، وفى ترشيد عمليات صنع القرار السياسي، في إطار أوسع نسبياً من دائرة الحكم العليا، والمؤسسات الأمنية والاستخباراتية، ومحاولة إشراك ذوي الخبرة والحكمة في أحد دوائر عملية صنع القرار، بديلاً عن الاستئثار، والانفتاح على دوائر ومنظمات جماهيرية فاعلة، تضفي على القرار شرعية شعبية وسياسية.

النخب الفاعلة والخلاقة تستصحب معها في صنع سياساتها وقراراتها المصلحة الوطنية، بكل ما تعنيه من تعبير عن الدولة ومعناها ومكوناتها، ودورها في الإقليم وفي العالم.

المصلحة الوطنية والأمن القومي مصطلحان محمولان على العمومية، وبعض الغموض على الرغم من تعريفاتهما الأكاديمية في قواميس النظم السياسية. يعتمد كلاهما على تعريف النخب الحاكمة لماهية المصلحة الموصوفة بالوطنية، ومعنى الأمن القومي. المصطلح الأول يعتمد في تحديده على مصالح وتوجهات هذه النخبة، التي تمسك بمقاليد السلطة والثروة، وطبيعة توجهاتها السياسية..

وأصولها الاجتماعية، وتحالفاتها الداخلية والإقليمية والدولية، من هنا، كان الاختلاف في تحديد ماهية المصلحة الوطنية في عهد ناصر عن السادات ومبارك، وما بعد 25 يناير، و30 يونيو في نمط العلاقات الدولية والإقليمية. كل نخبة سياسية تحاول أن تضع غالب أو بعض سياساتها الإقليمية والدولية، تحت الغموض الموحي للمصلحة الوطنية وعموميتها.

المصلحة الوطنية تعتمد في تحديداتها على الأساس الاجتماعي للنخبة الحاكمة وقاعدتها الاجتماعية الأوسع، الفئات الوسطى العليا أو الوسطى الوسطى أو الجماهير الشعبية من العمال والفلاحين والفئات الوسطى الصغيرة، إلا أن التعبير عن مصالح هذه الفئات تعتمد على توصيف وتحديد النخبة الحاكمة لها..

والتي تريد أن تعيد إنتاج ذاتها. من هنا، إذا كنا إزاء نخبة مفتوحاً على قواعدها الاجتماعية والشعبية، فإن توصيفها للمصالح الوطنية، غالباً ما يستصحب بعض مصالح هذه المكونات.

تبدو مشكلة تحديد ماهية المصالح الوطنية صعبة في ظل الحكم الشمولي والديكتاتوري أو الديني أو التسلطي، على الخلاف في ما بين بعضها بعضاً، لأن الحكم يعتمد على آليات لا ديمقراطية في الوصول إلى سدة السلطة، أو الاستمرارية فيها، ومن ثم تغيب عمليات التنافس السياسي السلمي، والسوق السياسي المفتوح، وعلى المصالح المتصارعة، وعن تعبير الفئات الاجتماعية عن نفسها من خلال الأحزاب السياسية، أو المنظمات الأهلية والطوعية.

في النظم الديمقراطية الراسخة، غالباً ما تكون المصالح الوطنية محددة، على رغم من أن بعضها متغير، والآخر متحول وفق سياسات التحول الاجتماعي والسياسي والدولي المعولم وما بعده.

من هنا، يخضع تحديد النخبة الحاكمة، والإدارة السياسية التي وصلت إلى الحكم عن طريق الآلية الانتخابية، لرقابات الأحزاب والرأي العام، والأجهزة الإعلامية، والمجالس البلدية والمحلية المنتخبة، واستطلاعات الرأي العام.. إلخ. وتبدو دينامية النخبة والحزب أو الائتلاف الحاكم في قدرته على التكيف والاستجابة إلى هذه التوجهات والانتقادات..

وما تحمله من رؤى مستندة إلى مصالح. إن قدرة النخبة السياسية على التكيف، تتمثل في تجددها وتوسيع دائرتها، وانفتاحها على قواعدها الاجتماعية والحزبية، وضم الكوادر والكفاءات إلى صفوفها، وليس انغلاقها على نفسها، وجمودها، جزء من التجدد السياسي والفكري للنخب الحية، يتمثل في قدرتها على استيعاب مناطق الخلل في تكوينها وسياساتها..

وفي عدم الاقتصار فقط على تقارير الأجهزة الأمنية والاستخباراتية والعسكرية والبيروقراطية، وإنما تعتبر هذه التقارير وما تحمله مادة قابلة للنقاش والحوار في ما بين بعضها بعضاً داخل التشكيلات الوزارية أو الرئاسة. إن حيوية أي نخبة سياسية في الحكم أو المعارضة، تتمثل في استيعاب تجارب وأخطاء الدول والنظم السياسية الأخرى، ليس في إقليمها فقط..

وإنما على المستوى الدولي المعولم، والأهم استيعاب تاريخها، فلا سياسة خارج نطاق استيعاب النخب والعقل السياسي لتاريخه وتاريخ منطقته وعالمه. ولا يقتصر الأمر على الأخطاء التاريخية للنظم والسياسات والسياسيين، وإنما اكتشاف مناطق الحيوية، والقدرات الخلاقة، والنماذج الملهمة في نجاح نماذج التنمية على تعددها وتمايزها.

خذ على سبيل المثال، تجارب آسيا الناهضة، وقدرة تينج هيساو بينج في الصين، على درس تجربة لي كوان يو في سنغافورة. أو التجارب الأخرى في ماليزيا، وتايوان وكوريا الجنوبية، وإندونيسيا، والهند على تعدد هذه التجارب التنموية الهامة.

النخب الحيوية هي التي تعتمد على المواهب والكفاءات والخبرات الأصيلة والمبدعة، والمنفتحة على تاريخها وعالمها..

وليست تلك التي تعتمد فقط على البيروقراطي ورجل الأمن ورجل الاستخبارات التكنوقراطي، وإنما تلك القادرة على توجيه وتوظيف هذه الأنماط في إطار رؤاها وسياساتها، وتمد بصرها إلى العناصر الكفؤة داخلها، وتضع من السياسات ما يسمح بتجديدها، ورفع مستويات كفاءاتها، واستبعاد العناصر محدودة المعرفة والكفاءة والفاسدة.

السياسي الكفء، هو من يمتلك الرؤية المستندة إلى المعرفة والخبرة واتساع الأفق، ويمتلك الحس والخيال السياسي الرفيع، والنخبة القادرة هي من يكون لدى بعض مكوناتها شجاعة مواجهة المشاكل المعقدة وتفكيكها، وإيجاد الحلول العميقة لها المعتمدة على دراسات أهل الخبرة والمعرفة والكفاءة، وليس على المواجهة السطحية للمشاكل ومحاولة احتوائها والتخفيف من احتقاناتها.

النخب الحية والفوارة بالحركية والكفاءة، هي التي تهجر سياسة الغرف المغلقة قرينة موت السياسة، وإنما تسعى إلى الانفتاح على السياسة الحية وأسواقها التنافسية، وعلى الديمقراطية وقيمها وثقافتها ومؤسساتها وآلياتها.

 

Email