عن التنوير المنشود قديماً وحديثاً

ت + ت - الحجم الطبيعي

«التنوير» اسم حركة فكرية نشأت في أوروبا في القرن الثامن عشر، وعلى الأخص في فرنسا وبريطانيا، وهما الدولتان اللتان كانتا بلا منازع، أكثر دول العالم تقدماً في ذلك الوقت: اقتصادياً وتكنولوجياً وثقافياً.

وحركة التنوير تقوم على مبدأ بسيط يمكن اختصاره في كلمتين«تحكيم العقل»، أو بتفصيل أكبر، تحكم العقل بدلاً من الاستناد إلى تفسير غير عقلاني لنص مقدس، أو اتباع قول مأثور لمجرد أنه مأثور، أو عرف شائع لمجرد أنه شائع، أو ما يقول به صاحب سلطة.

كان لابد إذن أن يدخل قادة حركة التنوير وأتباعهم في عراك ضد رجال الكنيسة، الذين يحاولون فرض تفسيرهم غير العقلاني للدين على الناس، وضد الملوك والأباطرة المستبدين الذين يحاولون فرض الأفكار التي تحقق مصالحهم الخاصة، وكذلك ضد الأعراف والمعتقدات المنافية للعقل.

استدعت حركة التنوير بالضرورة الدعوة إلى التسامح مع الرأي المخالف. فالدفاع عن الرأي يكون بالاحتكام إلى العقل، ومقارعة الحجة بالحجة، وليس بالتهديد بالقتل أو السجن أو التشريد أو الحرمان من رحمة الكنيسة أو تهييج العامة، والأمل قوي دائماً في أن يقتنع الخصم بقوة حجة خصمه ويرضخ في النهاية لحكم العقل.

ما دام هذا هو مضمون هذه الحركة وهدفها، فإن استخدام كلمة «التنوير» في وصفها يبدو ملائماً تماماً. ومع هذا فعلينا أن نلاحظ ثلاثة أمور مهمة:

أولاً: أن حركة التنوير هذه، التي اقترن اسمها بمفكري القرن الثامن عشر، لم تكن بأي حال الأولى من نوعها. فعندما دعا الكاتب البريطاني فرانسيس بيكون مثلاً، قبل ذلك بقرن ونصف، إلى تمحيص كل ادعاء بالرجوع إلى ما تدل عليه التجربة والملاحظة، وعدم قبول ما يتعارض مع ما تشير إليه التجربة أو المشاهدة بالعين، كان يدعو أيضا إلى «تحكيم العقل».

وقل مثل ذلك على حركة الإصلاح الديني في مطلع القرن السادس عشر، التي دعت إلى التحرر من احتكار الكنيسة الكاثوليكية في روما لتفسير الدين. وكذلك كانت دعوة الكاتب الهولندي إيرازموس، في الوقت نفسه، إلى التسامح الديني دعوة إلى تحكيم العقل.

وقبل ذلك كان ظهور الإسلام يتضمن بلا شك دعوة إلى تحكيم العقل، ووصف الإسلام للعصر السابق عليه «بالجاهلية» ورفضه بل وتحريمه لكثير من الأفعال والأفكار السائدة قبله كان مبنياً أيضاً على تحكيم العقل ورفض ما يتعارض معه.

كذلك كان كثير من أفكار الفلاسفة اليونانيين القدماء، قبل الميلاد بثلاثة وأربعة قرون، تتضمن إعلاء شأن العقل ورفض الاستناد إلى رأي شائع لمجرد أنه شائع، أو لمجرد أن الآباء والأجداد كانوا مؤمنين به، كما كانت في الوقت نفسه دعوة إلى التسامح مع أصحاب الآراء المخالفة وتسوية الخلافات بالاحتكام إلى العقل والمجادلة بالحسنى.

ثانياً: يجب ألا نتوقع من حركات التنوير سواء الحركة الأوروبية التي عرفت بهذا الاسم والتي بدأت في القرن الثامن عشر، أو الحركات السابقة عليها. أن توجه هذه الحركات سهامها إلى جميع المصادر المقيدة لحرية العقل، أو أن توجه سهامها إلى مصادر هذا التقييد بنفس الدرجة أو القوة.

كما يجب ألا نستغرب أن تصيب هذه الحركات بسهامها وهجومها بعض الأبرياء الذين لم يكن إعفاؤهم من هذا الهجوم ليس إلى قضية تحكيم العقل.

ذلك أن الإنسان لحسن الحظ (أم هو لسوئه؟) ليس آله عديمة الإحساس، والعقل لا يسكن جزءاً مستقلاً من الإنسان لا يتصل بعواطفه وطموحاته، بل عقل الإنسان متداخل مع عواطفه يؤثر فيها ويتأثر بها. وما دامت هذه حال الإنسان فلا يجب أن نتوقع من الإنسان أن يكون قادراً دائماً على كبح جماح عواطفه فيحكم على كل شيء، وفي كل مناسبة، حكماً عقلانياً خالصاً، متجرداً من الهوى.

ثالثاً: يجب أن نتوقع أيضاً أن يكون لكل عصر مهددات لتحكيم العقل يختلف فيها عن سائر العصور، فالظروف التي تدفع الإنسان دفعا إلى الخروج إلى حكم العقل كثيرة، وتتغير من زمن لآخر، ومن مكان لآخر.

فظروف الحياة المادية، ونوع التكنولوجيا المستخدمة، تغير من حاجات الإنسان ومن آماله وطموحاته، تلبي بعض هذه الحاجات والطموحات وتعجز عن تلبية بعضها الآخر، فلابد أن تتغير المغريات التي تدفع المرء إلى تبني مواقف منافية للعقل، بتغير هذه الظروف.

الحقيقة فيما تبدو لي، أنه مع تقدم الإنسان فيما يحوزه من علم، وفي تطويره لما يحوزه من تكنولوجيا، ومن ثم في السيطرة على قوى الطبيعة، يتمكن الإنسان من التخلص من بعض مسببات اللاعقلانية.

Email