الحكومة المصرية والرؤية المنشودة

ت + ت - الحجم الطبيعي

المقصود بالرؤية المطلوبة للحكومة المصرية، تحديد الأهداف بأكبر قدر من الوضوح، وتحديد الأفق الزمني الذي نعتبره مناسباً لتحقيق هذه الأهداف، وتحديد الوسائل التي ننوي اتخاذها من أجل تحقيقها، مع إدراك أن النجاح في تحقيق هدف من هذه الأهداف (كالتعليم مثلاً)، يتوقف على النجاح (أو على الأقل السير قدماً)، في تحقيق أهداف أخرى (كالاقتصاد مثلاً)، ومن ثم تجنب اتخاذ خطوة في ميدان تعطل السير في ميدان آخر.

من الواضح أن «الرؤية» وثيقة الصلة «بالتخطيط»، فالتخطيط لا يتصور أن يكون دون وجود رؤية، تتضمن تصوراً للأهداف والوسائل. ومتي غابت الرؤية لا يمكن أن يؤخذ التخطيط مأخذ الجد.

ووجود رؤية بهذا المعنى، هو نقيض العمل المتقطع قصير النفس، والقيام بأعمال متعارضة، يهدم بعضها بعضاً، واشتراك أشخاص غير متجانسي الفكر في مجلس واحد أو لجنة واحدة، تكون مسؤوليتها تحديد الأهداف المرجوة، بل وكثيرة، تغيير الأشخاص المسؤولين عن وضع السياسة العليا في ميادين مهمة وتنفيذها، وعدم وضوح معيار اختيار هذا المسؤول أو ذاك لذلك المنصب دون غيره، أو سبب استبداله بغيره.

ليس من الصعب أن نرى أننا نفتقد الرؤية بهذا المعنى منذ ثورة 25 يناير 2011 على الأقل، في ما يتعلق بتقدمنا الاقتصادي والاجتماعي والسياسي وفي السياسة الداخلية والخارجية على السواء. ولكن لدي أسباب قوية للاعتقاد بأننا ظللنا نفتقد هذه الرؤية منذ ما يقرب من خمسين عاماً، وبالضبط منذ هزيمة 1967.

لقد ظللنا محكومين لفترة طويلة بعد الهزيمة، في تحديد أهدافنا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، بهدف استرداد الأرض التي فقدناها في تلك الحرب، فظلت تلك الأهداف الأخرى متواضعة (أو حتى منسية) ريثما نستعيد الأرض المحتلة، إذ استمررنا بعدها محكومين بالخطوات التي يمكن أن نخطوها في سبيل استعادة الأرض.

نعم، حدث خلال ذلك، أن تبنى أنور السادات سياسة الانفتاح الاقتصادي، وسياسة التصالح مع إسرائيل، وأعرف أن كثيرين يعتبرون هذا وذاك من قبيل الرؤية المنشودة.

ولكني لا أتعاطف مع هذا الرأي، ليس فقط لقلة تعاطفي مع هاتين السياسيتين على النحو الذي جرى تطبيقهما في عهد السادات، وكثيراً أيضاً لاعتقادي أن رؤية السادات للتقدم في كلا الجبهتين، الاقتصادية والعلاقات مع إسرائيل، كانت بعيدة تماماً عن الواقعية.

ففي الاقتصاد، علق السادات الآمال على تدفق المعونات من الغرب، مكافأة له على الانفتاح وعلى التصالح مع إسرائيل، وهو ما كان يعكس (في رأيي) فهماً ساذجاً للغاية للعوامل الحاكمة للمعونات الغربية. وفي التصالح مع إسرائيل، علق السادات آمالاً كثيرة على وعود، أعتقد أنه حصل عليها من مسؤولين أميركيين كبار، بناء أيضاً على فهم ساذج لحقيقة هذه الوعود.

أما عهد حسني مبارك، فافتقاد الرؤية فيه كان يرجع إلى أن الرجل نفسه كان متواضع الطموحات والآمال، ومن ثم، قنع بنوع من الرجال الذين أحاطوا به، وكانوا مدفوعين بطموحاتهم وآمالهم الخاصة، التي لم تكن لها في «رأي» أي علاقة بالأهداف المنشودة للوطن.

كثيراً ما يقال إن ثوار 25 يناير 2011 كانوا يفتقدون «الرؤية»، ولكن أحداث يناير والشهور التي التي تلتها، كان من طبيعتها أن تفتقد الرؤية في ما يتعدى إسقاط النظام، ثم لم يسمح لثوار يناير بعد ذلك ببلورة الرؤية التي كان يمكن بسهولة أن تتبلور من خلال التبادل الحر للأفكار والآراء.

إن الرؤية المطلوبة، يجب أن تكون «عابرة لحدود التخصصات» نعم، إننا نحتاج إلى تصور للنظام الاقتصادي المنشود، وآخر لطريقة إصلاح التعليم، وثالث لطريقة التعامل مع الانفجار السكاني... إلخ.

ولكن كل هذا لا يكفي إذا لم يندرج في رؤية عامة للتقدم والإصلاح، ترتب الأولويات بين الإصلاحات المطلوبة في الميادين المختلفة، وتربط بين الإصلاح المطلوب في هذا الميدان وغيره، وتبين ما يمكن تأجيله حتي يتم الإصلاح في غيره.. إلخ.. وهذا هو ما أقصده بالقول بأن الرؤية المطلوبة يجب أن تكون عابرة للحدود الفاصلة بين التخصصات المختلفة.

إن وصف «عابرة للحدود بين التخصصات» inter disciplinary «كثيراً ما يستخدم للتعبير عن الحاجة في بحث معين إلي الخروج عن حدود التخصص الواحد، وقد قال مرة أستاذ سويدي شهير جنار ميردال، قولاً جميلاً، مؤداه أنه «ليس هناك مشكلة اقتصادية وأخرى اجتماعية وأخرى سياسية.. إلخ.

بل هناك فقط مشاكل، وهي معقدة». والذي كان يقصده ميردال بذلك، هو ضرورة أن نسمح لأنفسنا إذا أردنا حل مشكلة اجتماعية عويصة، بأن نعبر الحدود بين التخصصات، وإلا كان محكوماً علينا بالفشل، ومن ثم فإننا في سبيل الوصول إلى رؤية لطريقة الخروج من محنتنا الاجتماعية الحالية، يجب أن نمارس هذه الحرية في عبور الحدود القائمة بين التخصصات.

لقد لاحظت أن بعض اللجان التي تم تشكيلها من أجل تحقيق الإصلاح في مصر، تضم مجموعة من الشخصيات الفذة والموهوبة، كل في مجاله، ولكني أحار أحياناً في كيف يمكن أن يجري الحوار بين هؤلاء الأفذاذ، ومعظمهم رغم مواهبهم وتميزهم في فروع تخصصهم، لم يعرف عنهم امتلاكهم لهذه الرؤية الشاملة التي نتكلم عنها، فإذا فرض وقدم كل منهم النصيحة المثلي في مجاله، فلا بد أن تتجمع كل هذه النصائح في «رأس واحد»، تتبلور فيها الرؤية المنشودة.

Email