رفع معدل النمو أم القضاء على البطالة؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

في حفل افتتاح معهد التخطيط، بعد تجديده، ألقى رئيس الوزراء المصري المهندس شريف إسماعيل، خطاباً عن التنمية في مصر، عبر فيه عن بعض الأفكار التي لا أتفق معه فيها.

وبسبب أهمية هذه الأفكار، واشتراك رئيس الوزراء فيها مع النظرة السائدة حالياً في كتابات التنمية، بما في ذلك نظرة المؤسسات المالية الكبرى، كالبنك الدولي وصندوق النقد، وبسبب كثرة الحديث في هذه الأيام عن حاجتنا إلي رؤية واضحة لمستقبل مصر الاقتصادي، وجدت من المفيد أن أعبر هنا عن أوجه هذا الاختلاف في الرأي.

قال رئيس الوزراء، ما فهمت منه أن الهدف الأساسي للسياسة الاقتصادية في مصر هو وصول معدل نمو الناتج القومي إلى 6% ( أو أكثر). وأنه بغير تحقيق هذا الهدف لا يمكن «أن تصل ثمار التنمية للفقراء». قال أيضاً إنه «يجب ألا ينتظر المواطن أن تتساقط عليه ثمار النمو، بل لابد أن يعمل لرفع هذه المعدلات».

كما قال «إن المشروعات القومية التي يجري العمل على تنفيذها سيكون لها تأثير إيجابي على اقتصاد مصر، وستؤتي كل نتائجها خلال المستقبل القريب، وعلى رأسها مشروعات تنمية زراعة المليون ونصف مليون فدان، وشرق التفريعة، والمنطقة الاقتصادية بقناة السويس، واكتشافات الغاز، وإقامة محطة الكهرباء».

كما طالب «بالتمسك بالمنهج العلمي باعتباره الضمانة الأساسية لتحقيق التنمية المستدامة»، وقال «إن المرحلة المقبلة تتطلب التعامل بشفافية كاملة ووضوح تام في طرح المشكلات أمام المجتمع حتى يمكن العمل سوياً على حلها».

في أي شيء يمكن أن يختلف أي شخص مع أي فكرة من هذه الأفكار؟ رفع معدل نمو الناتج القومي يتكرر تقديمه كهدف للبلاد الفقيرة منذ أكثر من ستين عاماً، ومحاولة إقناع الفقراء بأنه لا حل لمشكلتهم إلا برفع معدل النمو تعود إلى أيام وليام سميث، أي إلى أكثر من مئتي عام. أما الدعوة إلى الشفافية وطرح المشكلات أمام المجتمع، وإلى التمسك بالمنهج العلمي فتعود إلى وقت أقدم من ذلك.

كما أنه ليس هناك أي شك في فائدة المشروعات القومية الكبيرة في الزراعة أو في غيرها.

ولكن المشكلة الاقتصادية التي تمر بها مصر في السنوات الأخيرة لها طابع خاص، ومن ثم تحتاج إلى ترتيب مختلف للأولويات، والتأكيد على أشياء معينة أكثر من غيرها.

بل إن بعض الأفكار التي رفعها الاقتصاديون التقليديون منذ قرنين، ولا يزال يرددها أتباعهم حتى الآن (بما في ذلك المؤسسات المالية الدولية)، قد تعرضت لنقد شديد ووجيه للغاية منذ أربعين سنة على الأقل، من اقتصاديين كبار أثاروا شكوكاً قوية في اعتبار معدل نمو الناتج القومي أفضل مقياس لدرجة التقدم الاقتصادي.

وشككوا في وجاهة اعتباره مقياساً جيداً لزيادة مستوى الرفاهية، وفضل بعضهم عليه، خلق فرص جديدة ومجزية للعمالة، أي التخفيف من حدة البطالة، مع التأكيد على إصلاح أحوال الفقراء، والارتفاع بمستوى الرفاهية في المجتمع ككل يمكن أن يحدث دون أي ارتفاع في معدل نمو الناتج القومي.

إن تفضيل هذا المقياس أو ذلك في تقييم الأداء الاقتصادي، لابد أن يختلف باختلاف الظروف التي يمر بها المجتمع ولكني أعتقد أن هذه الشكوك القومية في ملاءمة اتخاذ نمو الناتج القومي كمقياس لهذا الأداء وتفضيل مقياس زيادة فرص العمالة وتخفيف البطالة، هو الموقف الملائم تماماً لأحوال مصر الحالية.

لقد مرت مصر خلال الأربعين عاماً الماضية فترات حققت فيها معدلات عالية لنمو الناتج القومي، ولكن الفقراء حققوا بعض التقدم في بعضها دون أن يحققوه في البعض الآخر.

لقد ارتفعت معدلات نمو الناتج القومي في فترة الهجرة العالية إلى الخليج (75-1985) وحققت شرائح واسعة من الفقراء بعض التقدم في مستوى المعيشة إذ فتحت الهجرة خلالها أبواباً واسعة أمام العمالة المصرية في الخارج، وكذلك في الداخل (بالحلول محل العمال المهاجرين)، وهذا هو الذي ساهم في رفع مستوى معيشتهم وليس مجرد ارتفاع معدل نمو الناتج القومي.

ولكن حدث في عهد حكومة أحمد نظيف (2004-2011) أن ارتفع معدل نمو الناتج القومي دون تحسن يذكر في أحوال الفقراء، إذ كان ارتفاع معدل نمو الناتج القومي بسبب زيادة الاستثمارات الأجنبية التي اتجهت إلى مجالات كالبترول أو الاستثمار العقاري، أو حتى إلى شراء أصول كانت قائمة بالفعل، وكلها مجالات لا تساهم بطبيعتها في خلق فرص جديدة لعمل زيادة ملموسة، بل قد تؤدي إلى نقصان هذه الفرص (كما لو أدت الخصخصة إلى تخفيض العمالة بدلاً من زيادتها).

متى حولنا نظرنا من نمو الناتج القومي إلى مشكلة البطالة وفرص العمل، فإننا لابد أن ننظر نظرة مختلفة إلى ما يسمى بالمشروعات القومية الكبرى.

Email