الثقافة في مواجهة الفوضى والتطرف

ت + ت - الحجم الطبيعي

العقل السياسي البيروقراطي السائد، إذا جاز التعبير وساغ، غالباً ما لا يهتم كثيراً بالثقافة ودورها ووظائفها في إحداث التغيير الاجتماعي، وفي شائعة العقلانية والجمال والحقيقة النسبية، وفي إرهاف السلوك الإنساني، وفي تشكيل الفردية والمساهمة الفاعلة في إنتاج الفرد كشخصية ومشيئة وإرادة وفعل إنساني مستقل ومسؤول وفاعل في الحياة الاجتماعية وفي السياسة وفي العمل والأسرة وزمر الرفاق والأصدقاء.

عدم الاهتمام واللامبالاة من السياسي البيروقراطي والتكنوقراطي والأمني والعسكريتاري يعود إلى عديد الأسباب، نذكر منها تمثيلاً لا حصراً ما يلي:

1- أن تكوين البيروقراطي لا تداخله الثقافة إلا نادراً واستثناءً، وغالبا المثقف و«البيروقراطي»، نقيضان لا يجتمعان إلا قليلاً وإذا اجتمعا معاً في شخصية، فغالباً ما يتصارع الثقافي مع البيروقراطي في طرائق التفكير والحساسية وطريقة معالجة الظواهر والمشكلات المختلفة.

ويبدو المثقف معاقاً بإرثه البيروقراطي، ومتردداً بين المقاربة الثقافية للظواهر والأمور المختلفة داخل جهاز الدولة، وبين القيود البيروقراطية وتقاليد العمل المكتبي التي تحوطها التقاليد واللوائح والضوابط والأخطر الفساد الإداري المتضخم في جهاز الدولة المصرية. ثمة استثناءات في هذا الصدد من بعض الشخصيات التي تمدها الثقافة بالوعي والبصيرة والشفافية وعمق النظرة إلى الأمور المطروحة..

إلا أن هؤلاء – على قلتهم - غالباً، ما يستبعدون، أو يعاقون من داخل الأجهزة الإدارية التي يعملون بها، أو معها عن إبداء ومحاولة تنفيذ آرائهم التقدمية، أو خيالهم الإداري الوثاب، ويترتب علي هذا السلوك البيروقراطي المعادي للتطوير والابتكار قنوط هؤلاء المجددين على قلتهم، وسرعان ما يلفهم الصمت.

2- التكنوقراطي الذي يعمل في السياسي غالباً ما تسيطر عليه الذهنية الوظيفية والفنية، ومن ثم لا يأبه أغلبهم بدور الثقافة داخل الدولة، أو في المجتمع بل أحياناً يرونها عائقاً في مواجهة عملهم الفني. والأخطر أن بعضهم ممن يعملون في المجال الثقافي لا يراعون طبيعة هذا العمل ورحابته واحتياجه إلى الخيال التكنقراطي والثقافي والجمالي، ويميلون إلى المعالجات الفنية للأمور، وهو ما يظهر في بعض ممارسات هؤلاء في وزارة الثقافة وهيئاتها المختلفة.

3- العقل الأمني والعسكريتاري الذي يعمل في إطار النخبة السياسية الحاكمة، غالباً ما يهتم بالأمور والمعالجات السريعة للمشكلات، لاسيما السعي إلى احتواء آثارها حتى لا تتفاقم الأمور، ويسعون إلى الإنجاز السريع، ومن ثم غالباً ما يدركون دور الثقافة على أنه معيق لأعمالهم ومثير للشكوك، والجدل، والغليان الاجتماعي..

وليس بوصفها حلاً في العمق للمشكلات ضمن حزمة من أدوات أخرى، وثمة استثناءات تاريخية كالدكتور ثروت عكاشة أحد أبناء ثورة يوليو 1952 وقلة آخرين!

أن النظرة إلى الثقافة كأحد أدوات معالجة مشكلاتنا تبدو وكأنها أحد أدوات إرباك العمل في دولاب أجهزة الدولة، والصورة المدركة عن الثقافة لدى معظم مكونات النخبة السياسية الحاكمة تختلط بصور المثقف حيث التمرد ورفض المواضعات السائدة، والجدل، والخيال، وذهنية النقد المستمر للسياسات والحلول التي يقدمها العقل السياسي البيروقراطي والأمني.. الخ.

يمكننا أن نضيف العقل الديني السياسي النقلي والراديكالي وموقفه من الثقافة والمثقفين، لأن العقل النقلي - السلفي والرسمي التقليدي والعقل النقلي الإسلامي السياسي الراديكالي - جميعهم يساندون ثقافتهم الدينية التقليدية ويدافعون عنها، من خلال محاولة حجب العقل النقدي والثقافة الحداثية..

أو ما بعدها، لأنه يتعامل مع النصوص الدينية والفقهية والتأويلية والإفتائية من خلال استخدام المناهج الحديثة ذات المنظور النقدي، كما استقر في التقاليد الفكرية الغربية، سواء في التقليد الحداثي الذي يهيمن عليه سلطة العقل، أو العقل ما بعد الحداثي ونزعته للمحاكاة الساخرة ونسبية الحقيقة..

في هذا الإطار تبدو الثقافة والمثقف وحيدان ومستهدفان من هؤلاء الفاعلين على تعددهم، وغالبهم ضد سلطة المثقف والثقافة لأنها تشكل تهديداً وقلقاً وتوتراً من خلال العقل والرؤى والإنتاج النقدي الذي يؤسس لاستقلالية كليهما إزاء مؤسسات وسلطة المحرمات الاجتماعية والسياسية والدينية الوضعية، والهوامش التي يؤسسها المثقف بينه وبين سلطة السائد - معرفة وسلطات وأفكار وقيم وسلوكيات إلخ..

ومن ثم يتحرك فكراً وسلوكاً في إطار حرية العقل والفكر والتعبير. غالباً ما تتحسس السلطات القائمة أياً كانت هراواتها وأسلحتها المادية والرمزية، واتهاماتها بالتكفير الديني، وعدم الوطنية والعمالة للجهات الخارجية لتشويه المثقف وحصاره.

في ظل هذه الأوضاع المضطربة والعدائية وعجز العقل السياسي البيروقراطي والديني والأمني والتكنوقراطي عن مواجهة مشكلات معقدة، يبدو دور الثقافة والمثقف من الأهمية القصوي بمكان، لأنه وحده القادر على كشف وتعرية التناقضات، وإبراز جذور المشكلات وطرح الحلول الاستراتيجية في سياقات تطورها المستقبلي.

مواجهة ظواهر تفكك الدول، وهشاشة هياكلها، سياسية وثقافية بامتياز، لأنها دول لم تستكمل شرائط تأسيسها التاريخي والاجتماعي والرمزي، لأنها أسست على الغلبة – العائلية والطائفية والمذهبية والمناطقية والانقلابية - ومن ثم الخروج من المجتمع المنقسم إلى المجتمع المؤسس على الاندماج هو عمل سياسي وثقافي واجتماعي واقتصادي، وقاعدة تأسيس التكامل الوطني ورمزياته ثقافية بامتياز.

من هنا تبدو الثقافة عموماً، والنقدية خصوصاً، والمثقف أحد أبرز أسلحة المواجهة لفقر التعليم المدني والديني وضحالته وسطحيته، وهي المدخل لإعادة تجديد الدولة وتحديث هياكلها وأنظمة العمل داخلها، والأهم الارتقاء بمستويات المعرفة والوعي والسلوك الإداري، وبناء العقل السياسي الوثاب.. من هنا الثقافة هي الحل.

 

Email