حديث إلى الأجيال العربية الطالعة

ت + ت - الحجم الطبيعي

قرأت هذا الكتاب المدهش لأول مرة، منذ ثمانية عشر عاما في (1998)، ثم زاد إعجابي به عندما أعدت قراءته منذ أيام قليلة، كما زادت دهشتي، من أن يستطيع أي شخص أن يكتب كتاباً مثله وهو في التسعين من عمره.

الكتاب اسمه (ما العمل؟)، والمؤلف هو المفكر والمؤرخ السوري قسطنطين زريق، الذي وصف بأنه شيخ المؤرخين العرب، وبأنه داعية العقلانية في الفكر العربي الحديث.

ذاع صيته عندما نشر كتاب (معنى النكبة) في أعقاب هزيمة 1948 وضياع فلسطين، ثم استمر يكتب ويحاضر على أمل أن يعود للعرب رشدهم وينهضوا من سباتهم الطويل، فكتب (معنى النكبة مجدداً) في أعقاب هزيمة 1967..

واستمعت لمحاضرة رائعة له في القاهرة في أوائل التسعينيات، في أعقاب هجوم صدام حسين على الكويت، ثم نشر هذا الكتاب الصغير (ما العمل؟) قبل وفاته بعامين، ووضع له عنواناً فرعياً هو (حديث إلى الأجيال العربية الطالعة)، في محاولة لبث الأمل من جديد، واضعاً أمله هذه المرة في الأجيال الأصغر سناً، بعد أن اكتشف ما أصاب الأجيال الأكبر سناً من إعياء يستعصي على العلاج.

خطر للدكتور زريق قبل أن يعطي الكتاب للنشر عن طريق مركز دراسات الوحدة العربية، أن يزور القاهرة - وربما فعل هذا أيضاً في عواصم عربية أخرى - فيعطي مخطوطة الكتاب لبعض المثقفين ليقرؤوه، ثم يجتمع بهم ليستمع إلى ملاحظاتهم، قبل أن يضعه في صيغته النهائية، وكنت واحداً من هؤلاء، فلفت نظري الأسلوب، واللغة بالغة الرقي..

والشعور الصادق بمحنة الأمة العربية، ثم قدرته على تشخيص الأزمة وأسبابها الداخلية والخارجية، التشخيص الصحيح، وتحليله للمواقف المختلفة من هذه الأزمة، الصحي منها وغير الصحي، أو على حد تعبيره «المميت منها والمحيي»، ثم نفوره من الحلول المتعجلة، وإيمانه بأن النهضة مشروع طويل المدى لا يجوز فيه التعجل.

يفعل قسطنطين زريق كل هذا في أقل من مئة صفحة، فهل يا ترى فقدنا، نحن الجيل الأصغر، القدرة على رؤية الأمور بهذا الوضوح، وفقدنا الثقة الرائعة بإمكانية النهوض، فقدنا أيضاً هذا الاحترام الرائع للغتنا القومية، القادرة على التعبير بكل هذه الدقة والجمال عما يدور في رؤوسنا؟

هل يحتاج كل هذا إلى رجل ولد مثل قسطنطين زريق في سنة 1909، فتعلم بلغة عربية راقية، قبل أن يتقن لغة أجنبية، وقرأ لمؤلفين عظام من العرب القدماء والمعاصرين، قبل أن يشيع التهريج والتزييف في الكتابة والتأليف؟

يصف المؤلف في مقدمة قصيرة، مشاعر العرب، شيوخاً وشباباً، حينئذ، أي في يناير 1998، فلم أجد في هذا الوصف كلمة واحدة لا تصلح لوصف أحوالهم بالضبط الآن، في يناير 2016، على الرغم من الخمس سنوات التي وصفناها «بالربيع العربي» - نقلا عن معلقين غربيين، هم الذين اخترعوا هذا الوصف.

- ويعبر الدكتور زريق عن عجبه من المفارقة بين ما ساد الشعوب العربية الثلاثينيات إلى الخمسينيات من القرن العشرين، من مشاعر «مفعمة بالأمل والحماسة» والتفاؤل بمستقبل عربي أفضل، رغم أن أخطار الصراع العربي الصهيوني كانت جاثمة على الصدور.

ومن طموح إلى تحقيق شكل من أشكال الوحدة بين البلاد العربية، وبين ما يراه في نهاية القرن من تأسيس عام وتجاه الأجيال الناشئة إلى «مقصد الأغراض المادية»، والسعي إلى الانتقال إلى بلاد أخرى تقبلهم، وتضمن لهم مطالب العيش، حتى لو تطلب ذلك خسران أصلهم وهويتهم.

بعد أن يقدم الدكتور زريق تحليلاً صحيحاً لأسباب هذا «القنوط المستشري»، الخارجية والداخلية، يقدم تصنيفاً رائعاً للمواقف المختلفة من المحنة العربية الراهنة، فيذكر أولاً «الغائبين»..

وهم الغالبية «المثقلون بأعباء تحصيل لقم العيش ومكافحة المرض والتخلص من ظلم الحكام والحفاظ على البقاء»، ثم يذكر «الندابين واللوامين والمستهزئين»، وهم أكثر انتشاراً اليوم مما كانوا عند صدور الكتاب، ويصفهم بأنهم يكثرون من الندب والنواح لسوء الأوضاع..

ويلومون هذا وذاك من الحكام أو من الزعماء، ويستهزئون بأي أمل في الإصلاح.. نراهم يرتادون المجالس، بل يتصدرونها بوجوههم المنتفخة، وبطونهم المكورة، وأصواتهم المرتفعة، ينثرون عبارات النقد والانتقاص في جميع الجهات، وعلى جميع الناس، مغذين بذلك شعور الفشل والإحباط.

قد يصدم القارئ أن يجد بعد هذا التحليل السليم لمظاهر المحنة العربية، وأسبابها الخارجية والداخلية، وللمواقف المختلفة منها، لا يقدم حلاً سهلاً وعاجلاً للخروج من هذه المحنة، ولكن ما الذي ينتظره القارئ من رجل حكيم، عاش ما يقرب من قرن بكامله، وشهد ما شهده من حروب عالمية ومحلية، وثورات وانقلابات، مدنية وعسكرية..

وتتابع مختلف أنواع النظم السياسية، الوطنية وغير الوطنية، وشاهد العلل تتفاقم، والمحن تزداد رسوخاً، هل يمكن أن يتوقع منه حقاً نصيحة تخرجنا مما نحن فيه بين يوم وليلة/ بل المتوقع أن يرى رجل مثل قسطنطين زريق، الحل في عمل طويل المدى، ولكن بدأب وإصرار، تتراكم آثاره الطيبة عبر السنين..

كما تراكمت آثار الفشل والخيانة، يجب أن نزيل من أذهاننا، على حد قوله، أن تحقيق تحررنا وتقدمنا ممكن بأساليب سحرية، كرفع شعارات، أو ظهور مستبد عادل، أو حدوث انقلاب سياسي سريع.

إن جميع أسباب التحرر والتقدم التي عددناها، وغيرها مما لم نعد، لن تتم وتنتشر في جوانب المجتمع، وتؤتي ثمارها الطيبة، إلى إذا استندت إلى قدرتين أساسيتين هما العقلانية والخلقية.

 

Email