الصعود والهبوط على السلم الاجتماعي

ت + ت - الحجم الطبيعي

الإنسان بطبعه، يهمه بشدة، لدرجة قد لا تقل عن اهتمامه بالطعام أو الجنس الآخر، أن يظفر بمكانة معينة بين المحيطين به، أن يلفت نظرهم، أو أن يحظى بحبهم أو تقديرهم، أو على الأقل، أن يتجنب ما يمكن أن يشعروا به نحوه من كراهية أو لا مبالاة.

قد تكون مشاعر من هذا النوع، هي التي تفسر صراخ الطفل الصغير، حتى في شهوره الأولى، إذا لم يكن يشعر بحاجة مادية ملحة تتعلق بجسده، ولكنه لم يجد في من حوله من يهتم به أو يشعر بوجوده. إن حذف المرء من أن يفقد ما يتمتع به من مركز اجتماعي، يولد شعوراً قد يكون شبيهاً بشعور هذا الطفل الصغير، كما أن فرح المرء بتحسن مركزه الاجتماعي، أي بالصعود على السلم الاجتماعي، يشبه ما قد يشعر به الطفل إذا حصل على ما يريده من انتباه الناس واحتفالهم به.

هذه الظاهرة (الصعود أو الهبوط على السلم الاجتماعي)، إذا تعلقت بشرائح واسعة من المجتمع، هي ما يقصد عادة باصطلاح «الحراك الاجتماعي» (Social mobility)، وهي ظاهرة تسارع معدلها بشدة في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، بسبب ما اتخذ من إجراءات في أعقاب ثورة 1952 (والإصــــلاح الزراعي، والتعليم المجاني، التأميمات والتصنيع وبناء السد العالي، نمو الجيش والجـــهاز الحكومي... إلخ)، ثم استمر تسارع الحراك الاجتمــاعي في السبـــــعينيات والثمانينيات، بسبب الانفتاح والتضــــخم والهجرة إلى دول النفط، فزادت أعداد من ارتفع من أسفل السلم الاجتماعي إلى أعلى، وكذلك من انخفض مركزهم إلى منزلة أدنى.

ولكن ها قد انقضى الآن نحو ثلثي قرن على بداية الارتفاع الكبير في معدل الحراك الاجتماعي في مصر، ونحو ثلاثين عاماً على الارتفاع الكبير في معدل التضخم والهجرة، فما الذي يمكن قوله الآن، عما حدث لظاهرة الحراك الاجتماعي؟.

أعتقد أن من الممكن الآن التمييز في تلك الفترة الطويلة (1952-2015) بين ثلاث فترات، تختلف كل منها عن الآخرين فيما حدث من حراك اجتماعي، ومن ثم، في نوع التوترات الاجتماعية التي نتجت عنه.

الفترة الأولى: هي فترة الخمسينيات والستينيات، وقد ذكرت في ما تقدم، أهم العوامل التي رفعت بشدة من معدل الحراك الاجتماعي خلال هذه الفترة، بعد ثبات نسبى طويل. ولكن يهمني الآن أن أشير إلى تميز الحراك الاجتماعي في تلك الفترة عما جاء بعدها، إذ يمكن القول بأن الحراك الاجتماعي في تلك الفترة، كان مرتبطاً بصفة عامة، بزيادة الإنتاجية، ووثيق الصلة بحجم الجهد المبذول.

في الفترة الثانية (السبعينيات والثمانينيات)، استمر الحراك الاجتماعي السريع (بل ربــما كان أسرع من حراك الخمسينيات والستينيات)، ولكن اتسم هذا الحراك بانفصام مذهل بين حجم الدخول والــــثروات الجديدة، وبين حجم الجهد المبذول. نحن نعرف كـــيف أدى كل من التضخم والهجرة إلى تغيرات طبقية حادة، وما صحـــــب هذا من تكوين ثروات عديمة الصلة بالجهد المبذول، ولكنها وثيقة الصلة بالشطارة والخفة وتكوين علاقات قوية مع الممسكين بالسلطة.

ثم جاءت فترة ثالثة، هي التي بدأت بالتقريب مع بداية التسعينيات واستمرت حتى الآن. لقد استمر بالطبع الحراك الاجتماعي خلال هذه الفترة أيضاً (من الصعب أن تجد فترة في تاريخ أي مجتمع لا تحظى بأي درجة من الحراك الاجتماعي)، ولكن الحراك الاجتماعي في هذه الفترة، اتسم ببعض السمات غير المألوفة. استمرت العوامل التي تحفز الناس إلى الصعود، وتبعث فيهم الأمل في إمكانية تحقيقه، ولكن النجاح في تحقيق هذا الأمل، ازداد ندرة وصعوبة، وزادت أمثلة الفشل والإحباط، بالمقارنة بأمثلة تحقق الآمال.

في هذه الفترة، استمر انتشار التعليم، بما في ذلك التعليم الجامعي، في مختلف أنحاء البلاد، ومن ثم، استمر أمل الأولاد والبنات وأسرهم في أن يحققوا ما لم يحققه آباؤهم وأمهاتهم من قبل.

في هذا المناخ، لا بد أن يزيد التوتر الاجتماعي، بل وأن تزيد حدته لما يشاهده الجميع من أمثلة لعدد قليل من الناس، نجحوا بطريقة أو بأخرى في الحصول على هذه الفرص النادرة لأنفسهم وأولادهم. ذلك أنه في مجتمع راكد اقتصادياً، يوجد دائماً من يستطيع زيادة نصيبه من الكعكة، حتى وإن كانت ثابتة الحجم، وذلك بالافتئات على نصيب الآخرين، ويحدث ذلك في الغالب عن طريق الفساد.

Email