إمبراطورية الكسالى والقبح

ت + ت - الحجم الطبيعي

هل هناك علاقة بين تمثالين نصفيين مشوهين للأستاذ/‏ عباس محمود العقاد في أسوان ونفرتارى ملكة ملوك الكون والتاريخ في جامعة المنصورة، وبين هطول الأمطار الجارفة والسيول وانهيار وعدم كفاءة البنية الأساسية وتصدع بعضها؟ هل هناك ارتباط بين القبح النحتي ورداءته وبين فائض الأزمات الممتدة والمتكالبة، والعجز الفاضح عن مواجهتها في منابتها وأصولها وتطوراتها؟

ما علاقة الجمال الغائب في حياتنا في العمارة والنحت وتماثيل الميادين العامة، وبين تخلفنا التاريخي؟ هل طرح سؤال الجمال في التخطيط العمراني، وطرز البناء والنحت والتشكيل والسينما والموسيقى والثقافة يعد ترفاً في ظل ضعف الموارد الاقتصادية والمالية وشحها؟

نعم ثمة ارتباط بين غياب الجمال وفوضى العمارة وعشوائية البناء، وقبح وتشويه قطع النحت النصفية للعقاد ونفرتارى، وغرق الإسكندرية وانهيار الطرق قي سيناء من جراء هطول الأمطار والسيول. وهو ما يتمثل في هيمنة الرداءة وضعف الكفاءة وعدم التخصص والمتابعة والدراسة العلمية الموضوعية للواقع الموضوعي في مجالاته ومناحيه كافة.

والأخطر سيادة «الفلهوة» في التفكير والخيال والسلوك في الدولة وأجهزتها والمجتمع معاً، وكلاهما مسؤول عن هذا الضياع المسكون في الحزن الجماعي المعتق والإحساس بالعجز والحياة عند الحافة وغياب الأمل، ووهن الإرادة تجاه التحديات وضرورات مواجهة الذات «الفردية» والجماعية معاً..

وطرح أسئلة الوجود ذاته كدولة وشعب وأمة تنكسر موحداتها وقيمها الجامعة إلى شظايا محمولة على الكراهية للذات الجماعية ومراوغها وأكاذيبها إزاء ذاتها والعالم والواقع الموضوعي حولها، ذات تؤلم ذاتها، والأخطر تبحث دائماً عن الأسباب خارجها قبل أن تسائل نفسها! كل هذا القبح في تمثالين نصفيين لكاتب وملكة نادرة الجمال والحضور، من اللذان قاما بالنحت؟! وأي غياب للموهبة والمهنية والكفاءة لديهما؟

أين تعلما ومن سمح لهما بالتخرج وما هي معاييره، وهل كان كفؤاً أم كان على مثالهما! من الذي كلفهما بهذا العمل التشويهي القبيح؟ ما هي ملكاته الفنية وذائقته وحسه الجمالي وقدرته على الاختيار والتمييز بين الجميل والقبيح؟ إذا لم يكن المحافظ أو رئيس الجامعة من هو الذي عين من اختارا هذين العملين النحتيين القبيحين؟

ما هي مؤهلاتهم وقدراتهم ومعارفهم في الفنون التشكيلية وعلى رأسها النحت؟ من جاء بهؤلاء جميعاً؟ هل يستطيع من اختاروا القبح أن يديروا محافظة أو جامعة؟ وهل هناك علاقة بين الذوق الجمالي، وبين القدرة على إدارة المحافظات والجامعات؟

إنها العلاقة بين الثقافة والتخصص المهني، لأن من لا ثقافة له، ولا كفاءة مهنية يفشل في عمله الوظيفي والمهني، لأنه يفتقر إلى الرؤية الكلية التي تحتضن عمله التخصصي أياً كانت كفاءته ومستواها..

وجزء من هذه المهنية والكفاءة دقة العمل وصورته الجمالية التي هي جزء لا يتجزأ من بنيته، سواء أكان عملاً نحتياً فالقطعة ذاتها كإبداع جمالي – أيا كان شكله وصورته وكتلته وفراغاته- لا تتباين مع قاعدة التمثال الكامل أو النصفي، لأن كليهما يعتمد على رؤية جمالية وبصرية ودراسة للكتلة والفراغ والنور والظل.. الخ. من هنا إذا كان العمل جميلاً والقاعدة رديئة وقبيحة، يبدو ظل القبح على صورة وشكل التمثال، لأن الجمال لا يتجزأ.

ثمة عروة وثقى بين اختيارات القبح وبين سوء العمل والإدارة والتنظيم وشيوع الفوضى وانعدام أو ضعف الكفاءة المهنية. من الجلي علاقة الفشل في مواجهة السيول السنوية في سيناء وبعض محافظات الصعيد وبين فساد أجهزة الإدارة المحلية ومن يقودها، فساد في الضمائر والذمم وأخلاقيات العمل..

والأخطر انعدام الكفاءة وغياب التخصص والرؤية العلمية المتخصصة في مواجهة مشاكل مستمرة وتاريخية وتحدث كل عام في مواقيت متشابهة أو متقاربة، ويحدث تخريب الطبيعة غير المدروس علمياً!

ويبدو العجز السنوي عن مواجهتها، ويطرح العقل الغائب والمغيب والقبيح ذات الخطاب اللاعلمي والغبي تبريراً عن أحداث ومخاطر تحدث كل عام..

ويعاد إنتاج ذات الكلام والممارسات التي لا تواجه جذور المشكلات وإنما السعي لاحتوائها وتخفيض نسبي لآثارها المدمرة، ويتبدد المال العام سنوياً في دهاليز الفساد الرسمي ودوائر المحليات دون متابعة جادة أو مواجهة حاسمة إزاء رؤوسه والموالين له من كبار الموظفين العموميين ومتوسطيهم وصغارهم.

والسؤال الذي نطرحه: لماذا تحدث هذه الممارسات دونما مراجعة؟ هل لأنها جزء من ظاهرة انعدام أو ضعف الكفاءة وغياب الموهبة والملكات السياسية والتكنقراطية؟ بالقطع الإجابة نعم جهيرة، نمط من إمبراطوريات الكسالى والرشوة واختلاس المال العام.. الخ والاستثناءات محدودة، ويتم استبعادها وتحطيمها.

تقاليد وأساليب في العمل الإداري استعصت على الإصلاح أو التحديث منذ أيام الثورة الإدارية المزعومة التي أطلقها السادات إلى استكانة كل التشكيلات الوزارية في عهد مبارك لتزاوج رأس المال والسلطة..

وتناسلوا فساداً، وتوحشاً وبمنهجية ولم يسائلهم أحد عن هذا الفشل الذريع والمستمر ومن أين لهم هذا؟ ومن أين المليارات ومئات الملايين التي حصلوا عليها من الجهاز المصرفي بلا ضمانات، والأراضي المملوكة للدولة واستخدامها في غير ما خصصت له في مقابل الرشى المالية والعينية ؟

المشكلة لا تكمن في السيول والأمطار السنوية والعقلية القدرية التي تتظاهر بالتدين الشكلي والطقوس وجيوبها مفتوحة للمال الحرام، وإنما في ظاهرة عدم الكفاءة وغياب الثقافة والمعرفة والرؤية وسيطرة الكسل شبه الجماعي، والنزعة للتبرير المستمر لإضفاء مشروعية على عدم العمل وعلى الرشوة وأشكال الفساد الإداري والاجتماعي، بل والديني من بعضهم.

مجتمع بات يحفز على الفوضى، وتحول بعضهم إلى خبراء ومفتيين في أمور هم أكثر الناس جهلاً بها، وعلى صعيد الإعلام تبرز اللاكفاءة وانعدام الحرفية وغياب الثقافة .. ولا أحد يسائل أحداً رغم ما يشيعه هؤلاء من ثقافة القبح والجهالة. من هنا القبح يتكامل مع بعضه بعضاً، ويتساند ويتعاضد في كل المجالات..

فتمثال العقاد ونفرتارى تعبير عن إمبراطورية القبح واللاكفاءة وغياب المعرفة والذوق. المسألة المصرية باتت أكثر خطورة وتعقيداً عن ذي قبل، وتحتاج إلى رؤية شاملة ومواجهة صارمة وحاسمة داخل الدولة، وفي المجتمع معاً. فمن لها؟!

 

Email