عمارة الحرية والجمال وعمارة القبح

ت + ت - الحجم الطبيعي

تشكل العمارة ذاكرة الثقافة ومحمولها التاريخي من موهبة البناء وإبداع الجمال وتشكيلاته المتنوعة التي تعبر عن اكتشاف الإنسان عموماً والمعماري خصوصاً لمصادره وتجسيدها في أكثر خصوصيات حياته، السكن وبحثه عن السكينة والهدوء والتأمل والراحة عن الذاتي والخصوصي في تكوينه، وفي بحثه عن هذه الذات وتأملها في الخلوة الآمنة.

هي أيضاً كاشفة عن السلوك الإنساني وتحرره الداخلي والخارجي معاً داخل الحيز آمناً غير خائف. من هنا المنزل وتخطيطه وبناءه وتنظيمه هو فضاء للحرية الشخصية وممارساتها، هو المدرسة الأولى لتعلمها، ومن ثم هو افتتاحية تكوين الفرد والنزعة الفردية.

التخطيط العمراني، والعمارة ليست فقط محض الحجر والطوب والأسمنت ولا الرخام، ولا شكل الأبنية والأنسجة المعمارية في فضاء المدينة على أهمية الجوانب الهندسية والفنية، ومدى دقة التنفيذ والأداء، وإنما هي أحد الفنون الجامعة، أو فلنقل فن الفنون..

لأن فيها موسيقى الحجر، وإيقاعات النور والظل وما بينهما، وتنطوي على التشكيلي والبصري، هي وجه المدينة ووعائها الثقافي والإبداعي، وهي التي تحرض على الجمال، والأناقة المعمارية هي المؤطرّة لأناقة الزي ورهافة السلوك والحس الإنساني والجمالي في تفصيلات الحياة اليومية.

العمارة هي وجود وكينونة، هي عزف الحجر وقصائده، وهي شعرية الحجر في الفضاء العام، وهي نشيد الحرية والتعبير عنها طليقة كانت أم أسيرة والقيود المفروضة على حركة المواطن أو تحرره في المجال العام، وهي الكاشفة عن ثقافة المكان، والمدينة وازدهارها، أو تدهورها وانحطاطها، وهي الحد بين الحرية والأسر وبين الانطلاق وبين القيود.

العمارة كاشفة عن وضعية الحريات العامة والشخصية من حيث إقرارها واحترامها أو فرض القيود السلطوية عليها، سواء في التخطيط العمراني للأنسجة المعمارية والفراغات والطرق والميادين العامة.

في النظم الشمولية وجدنا الميلُ إلى تصميم الأبنية الضخمة التي أطلق عليها بعضهم «أسنان ستالين»، حيث تبدو المباني الحكومية ضخمة وعالية وواسعة في تصميمها الخارجي وفي فضاءاتها الداخلية..

ويبدو الإنسان فيها وكأنه محض قزم إزاءها هي عمارة وظيفية صلدة وفيها جفاء بين الإنسان والمبنى، ومن ثم تفتقر إلى الحميمية، وترمي إلى بث رسالة دائمة بعظمة الدولة والحاكم والحكم. خذ مثلاً مقر البرلمان في بوخارست في بلغاريا مثالاً على ذلك.

بعض الحكام الإمبراطوريين في نظم ديمقراطية عريقة أرادوا تخليد ذواتهم المتضخمة من خلال نمط معماري اختاروه بأنفسهم من ضمن عديد التصميمات، ومن هؤلاء «الإمبراطور» الرئيس الفرنسي المحنك فرنسوا ميتران، ولأنه مثقف كبير وسياسي محنك وداهية هو الذي اختار ضمن آخرين - قوس الدفاع - أو القوس الكبير - Arche de la Defense الذي صممه المعماري الدنماركي يوهان أوتوفون شبريكلس (29-1987) ..

وخلفه شريكه المعماري الفرنسي بول أندريو وأنجز العمل في 89-1990، ثم بتكليف من ميتران صمم المعماري من أصول يابانية أي أم بي هرم اللوفر الزجاجي، وكذلك اختار تصميم مبنى وزارة المالية ببيرسي وأطلق على مجمل هذه الأبنية واختيارات ميتران العمارة الميترانية.

بعض الدول التسلطية مكتظة السكان تميل أجهزتها الأمنية إلى تصميم الفراغات والأفنية والميادين وما حولها على نحو يسمح لها بفرض قيود على حركة الأفراد والمجموعات، بحيث يسهل السيطرة على الجموع في حالات التظاهر أو الغضب، لاحظ حالة ميدان التحرير والإسعاف، ورمسيس والنهضة.. الخ قبل 21 يناير 2011. هنا يبدو تخطيط هندسة المرور والتحرك تعبير عن طبيعة النظام وقيوده المفروضة على المجال العام السياسي.

من ناحية أخرى تكشف فوضى البناء العشوائي، وفرض الأمر الواقع وتجاوز القانون عن فساد أجهزة الدولة والحكم المحلي في فرض قانون الفساد في البناء بلا تخطيط ولا مراعاة للقواعد الهندسية وهو ما يؤدي إلى عمارة المقاولات، حيث تغيب القيم وأخلاقيات البناء والعمران لصالح شيوع عمارة القبح الذي يأتي من ضحالة تكوين المعماري وتفاهته تحت سلطان التربح المالي وخضوعه لقانون المقاولين.

عمارة القبح هي سلطان القانون المعماري في مصر، حيث تغيب التصميمات التي تكفل الحق في الخصوصية والتمتع بها داخل الحيز المكاني للحياة الخاصة للشخص أو لأفراد الأسرة وتبرير ذلك بالعشوائية، وعدم احترام وإقرار الحق في السكن الصحي إلى آخر هذه التبريرات التي ساهمت مع غياب السكينة العامة في المدن إلى أن يكون السكن ضيقاً ومكتظاً بأفراد الأسرة..

والملتصق بغيره من الوحدات السكنية، ومتداخلاً مع المساكن والبيوت الأخرى إلى أن أصبح جحيماً أرضياً بلا نزاع، حيث سهولة التنصت والتلصص من الجيران.

وضوضاء الطرق الضيقة وأصوات الباعة الجائلين، ويعود السكن كفضاء للمجال الخاص جحيماً وصخباً بديلاً عن أن يكون فضاءً للحرية الشخصية وتجلياتها بعيداً عن العيون المتلصصة، والأذان المتنصته هذا بالإضافة إلى تنصت السلطات على هواتف المواطنين لاسيما من ذوي التوجهات السياسية أياً كانت!

هذا النمط العشوائي أدى ضمن عوامل أخرى لاهتزاز وضعف بل وغياب مفهوم سيادة قانون الدولة، ودوره في الضبط الاجتماعي والأخطر عجز القانون العام – الإداري - عن تحقيق مفهوم السكينة العامة.

نعم بتنا نحيا ضمن دائرة جحيم العمارة المبتذلة والسوقية التي تفتقر إلى الروح الحداثية، أو حتى روح القومية، بحيث تبدو العمارة الحداثية وما بعدها محض مسوخ من الحجارة والرمل والأسمنت فاقدة الروح المعمارية وموسيقاها، أو عمارة مستنسخة من أنماط عولمية تتفق مع مجتمعاتها وعصرها وقد لا تتفق وتتناسق مع ثقافاتنا الوطنية والمحلية.

منذ عمارة مصر الفاطمية وما بعدها، انتقلنا مع نهاية القرن التاسع إلى عمارة وسط القاهرة الأوروبية، ومع النصف الثاني من القرن العشرين دخلت العمارة الوظيفية في البناء الحكومي مفتقرة للجمال والروح، عمارة خشنة وفظة وغليظة القلب وتبدو عمياء، وبعيدة عن ثقافة المكان والبيئة وقيم الإنسان الذي يسكن المكان في داخله ويعبر عنه.

كانت الروح القومية تبدو قليلاً في بعض الأبنية الحكومية والمحاكم ومحطات السكك الحديدية والمساجد والأديرة والكنائس أثناء الحركة القومية المصرية، وتجلت في النحت لدى مختار، وفي بعض إبداعات التصوير التشكيلي، إلا أن هذه الروح تراجعت مع هيمنة وظيفية معمارية مستعارة من عمارة الدول الاشتراكية، ولم تهتم النخبة المهترئة بتجربة صديقنا الكبير حسن فتحي الراحل المقيم أو تطويرها.

وصلنا إلى هنا حيث عمارة تفتقر إلى الروح، فظة وسوقية رغماً عن بعض التزويقات الفجة التي تعكس روحاً بورجوازية منحطة بلا ثقافة ولا قيم رفيعة للجمال والتوافق بين الإنسان والحجر. قال جوته إن العمارة موسيقى مجففة، وإن الموسيقى والهندسة من نبع واحد. ونراها موسيقى وشعر وثقافة وروح مجسدة في البناء.

 

Email