زورق شراعي صغير.. وعاصفة هوجاء

ت + ت - الحجم الطبيعي

كان ذلك في منتصف الستينيات، أي منذ نصف قرن، وكنا دائمي الكلام عن مشكلات مصر الكثيرة (ومتى لم يكن لمصر مشكلات كثيرة؟). لم تكن قد وقعت هزيمة 1967 بعد، ولكن كان قد وقع انفصال سوريا عن مصر، وتفكك ما كان يسمى بالجمهورية العربية المتحدة، ثم تورط مصر في حرب اليمن، وما جره من متاعب اقتصادية وسياسية، فضلاً عن قرار الولايات المتحدة بقطع المعونات الاقتصادية عن مصر (وكانت المعونات الغذائية مهمة بوجه خاص)، وما كان يعنيه هذا القرار من تهديد لمسيرة التنمية والتخطيط في مصر، وأدى بالفعل، بالإضافة إلى حرب 1967، إلى أن خطة مصر الخمسية الأولى أصبحت خطتها الأخيرة.

كنا نتناقش أيضاً، في بعض الأحيان، حول ما إذا كان ما يطبقه عبد الناصر من إجراءات يستحق وصف الاشتراكية أم أن من الأفضل تسميته بالاشتراكية العربية. وهو نقاش يبدو غريباً جداً الآن، في ظل الظروف الاقتصادية والسياسية التي كانت سائدة حينئذ، إذ لم يكن من شأن هذا النقاش (حتى إذا وصلنا فيه إلى اتفاق) أن ينطوي على أي نتيجة عملية. ولكنه كان يدل على أي حال على أن نفوسنا كانت تنطوي على بعض الأمل في مستقبل أفضل، بسبب حداثة عهدنا بمثل هذه الإجراءات، أو ربما أيضاً لمجرد صغر سننا.

أذكر أني قابلت في تلك الأيام صحافياً معروفاً، كان أيضاً وفدياً عتيداً، وكان فضلاً عن ذكائه وقدراته الصحافية، ظريفاً حاضر النكتة، فاجأنا بالقول إنه يعرف وسيلة لحل كل مشكلات مصر المستعصية، وفي وقت أقصر بكثير مما نظن، إذ لا يحتاج الأمر إلى أكثر من إصدار قانون من مادتين. فلما سألناه بدهشة عن مضمون هذا القانون، قال إن مادته الأولى تنص على إعادة كل شيء إلى ما كان عليه يوم 22 يوليو 1952، والمادة الثانية تنص على أن ينفذ هذا القانون فور صدوره.

لم يكن هذا التفكير غريباً على وفدي قديم، إذ أن معظم الوفديين القدامى، فيما أظن، كرهوا قيام ثورة يوليو، وظلوا يتحسرون على ما كان يمكن أن يحدث لو استمر العهد القديم، رغم استعدادهم للاعتراف بعيوبه. كانوا يعطون ديمقراطية ما قبل 1952 أهمية أكبر (في نظري الآن) مما يستحق، ويتجاهلون أنها كانت تنطوي على تنافس وتبادل الحكم بين أفراد شريحة صغيرة جداً من المجتمع، وأنها رغم كل طقوسها الجذابة، كانت تستبعد أكثر من ثمانين بالمائة من سكان مصر، ولا تكاد تفعل لهم شيئاً لرفع مستواهم الاقتصادي والتعليمي.

تكرار سماعي لهذا الرأي (أي إلقاء المسؤولية عن كل مشكلاتنا على ثورة 1952) طوال الخمسين سنة الماضية. سمعته طبعاً بعد حدوث هزيمة 1967، وإلقاء المسؤولية عنها على دكتاتورية عبد الناصر، ثم بعد تراكم ديون مصر في عهد السادات، وفتحه باب الفساد وزيادة الفجوة بين الدخول والثروات، ثم عجز نظام مبارك عن مواجهة هذه المشكلات، بل وتفاقمها في عهده مع زيادة معدلات البطالة.. الخ.

والحقيقة أني لم أتعاطف مع هذا الرأي، مهما كان استعدادي للاعتراف بأخطاء عبد الناصر والسادات ومبارك، واعتبرته دائماً (ولا أزال) رأياً ساذجاً يقوم على تصور قدرة أي فرد وزعيم على تغيير مسار التاريخ بإرادته المنفردة، وعلى تجاهل مفرط لأهمية عوامل أخرى أكثر بكثير من ميول وأهواء شخصية الزعيم. للسبب نفسه لم أتعاطف قط مع من يقول إن تاريخ روسيا كان يمكن أن يكون أعظم بكثير لولا ستالين، وكذلك تاريخ أوروبا لولا نابليون..الخ.

إني أعتقد أن تأثير هؤلاء الزعماء والحكام لا يزيد كثيراً عن تأثير وقدرة ملاح صغير يقود مركباً شراعياً لا تحركه سوى قوة الرياح والتيار المائي باستثناء، ربما، مجدافين صغيرين لا تتناسب قوتهما بالمرة مع قوة هذه القوى الطبيعية. ربما استطاع هذا الملاح الصغير تجنب اصطدام مركبه بالأرض، أو بمركب آخر، ولكن حتى هذا الاصطدام قد يثبت تعذره في ظروف مناخية غير مواتية.

كم مر على مصر من شخصيات لعبت أدواراً مختلفة مع اختلاف الظروف المحيطة بمصر (من هؤلاء بالطبع أنور السادات نفسه أو عثمان أحمد عثمان) وكم تحول رئيس حاكم بأمره كان يبدو كأنه ينفرد باتخاذ القرارات، إلى حمل وديع عندما أجبرته ظروف دولية جديدة على ذلك. بل إنني أجد تأييداً لهذا الرأي من جانبي فيما حدث لدول العالم الثالث خلال هذه الفترة الطويلة. إذ لابد أن نلاحظ الندرة الشديدة لتجارب النجاح بين هذه الدول، في تحقيق استقلال الإرادة، بينما انصاعت الغالبية العظمى منها للظروف الدولية على النحو الذي ذكرته.

فإذا تأملنا هذا العدد القليل جداً من الدول التي حققت بعض النجاح في استقلال إرادتها (كالصين وكوريا الجنوبية وماليزيا، وربما أضفنا الهند أخيراً) وجدنا أسباباً تفسر الاستثناء مما يؤكد صحة القاعدة.

فهي إما دول ولدت كبيرة الحجم بدرجة تسمح لها بمقاومة أكبر للعواصف الهوجاء (كالصين والهند) أو لها جارة خطيرة اهتمت الدول العظمى باحتوائها وتجنب خطرها (ككوريا الجنوبية) أو لها خصائص فريدة في تركيبها السكاني وتاريخها مكنها في فترة حاسمة من تحدي إرادة الدول الكبرى (مثل ماليزيا) بل نجد أن معظم الدول كبيرة الحجم والغنية بالموارد (كالبرازيل) تتعثر مقاومتها المرة بعد الأخرى، إذ توجد في جزء من العالم أكثر تعرضاً للعواصف الهوجاء من غيرها.

إنني أشعر إذ أكتب هذا، بضرورة الاعتذار لبعض أصدقائي الحميمين، الذين يدفعهم نبل عواطفهم إلى اتخاذ مواقف سياسية لا أستطيع التعاطف معها، رغم إدراكي لنبلها، إذ أجدهم يفترضون أن الشراع الذي يملكه زورقنا الصغير، والمجدافين اللذين في حوزتنا أقوى بكثير مما هي في الحقيقة، ومن ثم أراهم، وهم يحاولون توجيه الزورق إلى بر السلامة، يخيب أملهم المرة بعد المرة، دون أن يثنيهم هذا عن تكرار المحاولة.

ولكن على الرغم من كل هذا، لا أشعر باليأس فالتاريخ المصري يمدنا بالمثل بعد الآخر، لتغير الظروف الدولية لصالحنا، أضف إلى ذلك أن المجتمع المصري لا يكف عن مدنا بمفاجآت سارة، فإذا بجيل جديد من الشباب المصري يفاجئنا بقدرات جديدة (تكونت لديه بالتدريج في فترات الجو الصحو والعواصف الهوجاء على السواء) يمارس ذكاءه الفطرة لإصلاح ما أفسدته فترة سابقة، فلماذا لا يحدث مثل هذا مرة أخرى، بعد انحسار العاصفة الهوجاء الحالية؟

Email