طمأنينة القسوة

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا أعرف من أين تأتي الطمأنينة والرضا عن الذات المتوحشة وحجم ونوعية المعرفة والوعي التي حصلت عليها لدى بعض الغلاة؟

 

بعضهم يحاول أن يكتسب طمأنينة من خلال المزاوجة بين الإيمان الشكلي وطقوسه وعلاماته ولغته التي غادرتها ذاتيته وتفكيره وحسه الخاص، لأنها مستمدة من ماكينة تولد تراكمات من لغة خشبية وشعارية تريد أن تقول للآخرين أنا مؤمن! أنا ملتزم!، وبعضهم يغالي ليقول أنا الأكثر استعلاءً بالتزامي الحرفي بالدين وقواعده وعقائده! أنا!. أنا!.

أنا!.. لغة تبدو جماعية لكنها تنطق بتورمات للذات تفوق الحدود، وتتجاوز بعض الحس الإنساني المتواضع، الغيري الذي يستهدف إشاعة الخير، واللطف، والمحبة والتسامح والجمال في كل ثنايا الحياة وتفصيلاتها وفي علاقة الإنسان/ الفرد مع ذاته، ومع الآخرين، والطبيعة، والأهم أن تتحول هذه القيم إلى جزء من حنايا التكوين «الفردي» وتتمظهر في الحس والضمير الفردي قبل تمثيلات هذه القيم وعلاماتها خارج الذات!

الذاتي والحسي والروحي والبصري والذاكرة والخيال في العلاقة مع الإيمان هي أساس التدين الفردي، وتخليص الذات من جروحها أو التخفيف منها، وتدريبها على رهافة الحس الجمالي والإيماني.

مكابدة الذات وآلامها القاسية والارتقاء بها حساً وذائقة وجمالاً يبدو صعباً حيناً وعصياً في أحيان أخرى، لأن بعضنا لم يعش حياة الذات ومراياها ومصادر عذاباتها وأشواقها وشهوانيتها وصباباتها وغواياتها إلا على نحو عابر وسطحي، إلا قليلاً، وإلا لمن استطاع أن يدخل باب المكابدة والألم كمعبر للمعراج الذاتي الصاعد نحو غايات البحث عن الحقيقة، حقيقة الذات والألم والحياة والوجود والعدم.

من هنا كان التدين الفردي جزءاً من مكابدة الحس والتدريب الذاتي على اكتشاف الجمال وتذوقه وممارسته في الذات. من منابع الجمال والإيمان الفردي الذاتي ولد الفرد كفاعل اجتماعي وسياسي، ولد من ذاته ضمن شروط اجتماعية وسياسية تحرر فيها الديني من المؤسسة والتقليد والطقوس، والتمثيلات والعلامات الخارجية، ليغدو جوهر الإيمان والتعبد لله الواحد القهار ذاتياً عميقاً وجودياً لدى بعضهم، ويغدو الإيمان بالفردي الوضعي والحرياتي سائداً لدى بعضهم الآخر.

من هنا يبدو سؤال الطمأنينة راهناً، من أين جاءوا بالطمأنينة كل هؤلاء الغلاة الذين يبثون في الحياة الشر والغلظة والدعوة للكراهية والإقصاء ونبذ الآخرين؟

من أعطى هؤلاء الوكالة أو النيابة عن المقدس تجلىّ وتعالى كي يحولوه إلى سلطة مطلقة بأيديهم فقط، يمنحون الناس صكوك الغفران أو يكفرونهم؟! من أين هذه الطمأنينة التي تبدو كتجلٍ للخَّدرُ الذاتي وسكينة الألم واليقين في هذا النمط من الوحشية، وهذا الإبداع في ابتكار أساليب القتل والحرق والذبح والصلب المترعة بالوحشية والعذاب لمن يختلفون معهم؟!

أي طمأنينة تلك، ومن أي المنابع جاءت؟ من أين استمدوا سلطة الاستعلاء الفردي والجماعي، وهم قلة على من معهم من الذين انقادوا إلى أفكارهم وبنياتها الإقصائية، والتي تعطيهم وحدهم سلطة النطق باسم الله - سبحانه وتعالى - وباسم المقدس والعياذ بالله؟ من أنابهم عن الرسول الأكرم، صلى الله عليه وسلم، كي يحاولوا قسر الناس جبراً على السير على هداهم وضلالاتهم وغواياتهم البشرية؟

من أين جاءت هذه الحرية المطلقة في تكفير الآخرين وفق أهوائهم ومعتقداتهم التي تحولت إلى دين من دون الدين؟

استباحات، وانتهاكات وكراهية ومنابع لإنتاج الشر تمارس بحرية بلا حد في طمأنينة وسكينة؟ هل هي طمأنينة تأتي من أزيز الرصاص وهدير المدافع وتناثر وتفتت مزق الجسد الإنساني المعصوم؟ هل هي طمأنينة انصهار ثلاثية اللحم والحديد والنار؟ هل تتأتى من غياب قيم ومعاني الحب والرحمة والجمال؟ من أين تأتي طمأنينة القسوة؟!

Email