هل صناعة العدو ضرورة سياسية؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

ما يبدو من صورة العدو أياً كان هو قمة جبل الجليد فقط، لكن هناك تعقيدات تخفى على كثيرين، وربما ما يبدو في الصورة الخارجية «عدو» هو في الحقيقة مشروع لصناعة العدو. والتجارب على مر التاريخ تعملنا أن صناعة العدو أسلوب تستغله الدول في مشروعها الداخلي أو الخارجي.

ويرى كثيرون أن وجود العدو له إيجابيات في أنه يجمع الشعب على قضية واحدة، وبالتالي تسهم في الاستقرار السياسي الداخلي، بل إن دولاً مثل الولايات المتحدة تمارس في عقيدتها السياسية وجود العدو سواء كان النازية أو امبراطورية الشر «السوفييتي» والآن الإرهاب.

وهناك من يرى أن صناعة العدو ليست فقط عملية لبناء التماسك الداخلي، بل حتى في النظام الرأسمالي الذي يفتح شهية زيادة الإنتاج لدى رجال الأعمال، ما يهدد بتجاوز العرض على الطب وانهيار الأسعار، ولكن في وجود عدو يتطلب زيادة الإنتاج والإنفاق العسكري، وهذا يخلق سوقاً تستوعب الفائض وتحرك الدورة الاقتصادية الداخلية. وهذه الفلسفة التي يعتقد فيها الخبراء الاستراتيجيون في وجود عدو أو صناعة عدو في حالة عدم وجوده.

ومن يراجع التجارب التاريخية يجد أن النازية استطاعت أن توحد شعبها، وتعسكر الشعب بكامله تحت رؤية واحدة وأيدلوجية واحدة، لأنها كانت تصور الآخر هو العدو. وهذا حسب مفهوم الرسالة، التي أدارتها الآلة الإعلامية ضرورة توحد الشعب لقتال الأعداء المحاربين للنازية. وهي سياسة نجحت بشكل كبير خاصة في ظل الانتصارات التي حققتها ألمانيا وابتلاعها الدول الأخرى قبل أن تصل الأمور إلى الهزيمة.

وفي العالم العربي كان العدو الإسرائيلي شماعة للدول التي كانت تصنف نفسها تقدمية أو ما أسموا أنفسهم دول (الصمود والتصدي) وكانت هذه الأنظمة السياسية تتغني يومياً بالحرب على إسرائيل، والقضاء عليها ومحيها من الخريطة، في حين أن هذه الدول لم تطلق رصاصة واحدة على إسرائيل، ولكنها استغلت وجود فزاعة العدو لفرض الهيمنة السياسية على الداخل، وخرس ألسنة المعارضين من باب لا صوت يعلو فوق صوت المعركة. واستطاعت الأنظمة السياسية أن تعزز من سلطاتها، وتسد أي مجال لتحول ديمقراطي حقيقي، وأسهم السياسيون والإعلام في ترسيخ هذه المفهوم ومرت سنين طويلة، والشعوب تعيش في حرب لم تحدث، وفي صراع لم ينته.

والعدو تطور مفهومه أو صناعته ويفسرها الكاتب الفرنسي بيار كونيسا في كتابه (صنع العدو)، بأن العدو لم يعد من المعطيات، بل أصبح مكتسباً، أي تلاشي نظرية العدو في الحروب التقليدية وأصبح العدو خياراً سياسياً يتم صناعته وتصويره بالطريقة، التي تخدم الأهداف الاستراتيجية. وتقوم الفكرة على أن يعيش العدو أطول فترة ممكنه بدلاً من التخلص منه لأن استمرارية العدو هي استمرارية للنظام.

وربما تعكس الحالة السورية هذا الأسلوب، فلقد كان النظام السوري يتغاضى عن وجود داعش، ويدفعها للمربع الأخير في الإرهاب، ومن ثم سعى لتقديمها للعالم على أنها العدو وأنها تجسد الإرهاب. ومن هذا المنطلق يهمه وجود العدو ( داعش) واستمرارية تهديدها، لأن القوى العالمية أصبحت تركز على العدو الأساسي في نظرها وهو داعش، ومن يستمع للتصريحات الأخيرة التي انطلقت من بعض العواصم العالمية يجد أن الفكرة طبقت وبدأت أصوات تطالب ببقاء نظام الأسد في الفترة الانتقالية، رغم كل الجرائم التي ارتكبها ضد شعبه.

وقضية العدو هي قضية ليست فقط سياسية، بل فلسفية وضاربة في الأعماق فالحرب في تصويرها منذ أزل التاريخ على أنها حرب بين الخير (نحن) والشر (الآخر)، وهي تأخذ صوراً مختلفة فحتى الهوية هي شكل من أشكال الاختلاف الذي يقود إلى عداء الآخر لأنه مختلف، وكما يقول المستشرق إدوارد سعيد: إن أزمة الهوية تتضح بقوة في المجتمعات التي تنخرط في دينامية الحداثة، لأنها تكتشف الآخر المختلف، وتكون موقفاً دفاعياً وربما يتطور إلى عدائي.

صناعة العدو كونه أسلوباً سياسياً قضية جدلية وأخلاقية، ولكن السياسة تتبع المبدأ الانتهازي «الغاية تبرر الوسيلة». الخطورة هنا أن تقوم صناعة العدو على مبدأ ديني لأن خلط الدين بالسياسة تقليل من شأن الدين، فالدين ثابت والسياسية متغيرة. وأعداء الأمس قد يصبحون أصدقاء اليوم. ومن الصعب تغيير القناعات الشعبية متى ارتبطت قضية العداء بمحفز ديني، فالجمهور سيتعامل على أنها قضية عقيدية، وتمس الثوابت المقدسة، وسيكون من الصعب تغيير القناعات متى ما تغيرت المصالح.

وتظل القضية أصعب في ظل ثورة تكنولوجيا الاتصالات، وانفتاح المجال أمام جمهور واسع للمشاركة وربما يكون بعضهم غير مدرك لأبعاد الموضوع، ولكن من باب التفاعل أو البحث عن جماهيرية في شبكات التواصل الاجتماعي.

وهنا تتطور قضية العدو من أشكال المفهوم التكتيكي إلى قضية صراع مصيري، وربما ينتج عنه عنف غير مقدور السيطرة عليه. ومن هنا تكون من الأهمية أبعاد الجانب الديني في الصراع السياسي والتعامل مع حقائق اليوم السياسية على أنها متغير قد يأخذ أشكالاً مختلفة، وكما يقولون: الثابت الوحيد في السياسة أنه لا يوجد فيها ثوابت.

Email