المثقف والبيروقراطي والسياسي

ت + ت - الحجم الطبيعي

العلاقة بين المثقف والسلطة ورجل الدولة اتسمت بالعديد من التوترات والاحتقانات الملتهبة طيلة أكثر من ستة عقود ولا تزال منذ ثورة يوليو 1952 وحتى اللحظة الراهنة، في حين أن هذه العلاقة لم تكن على هذا النحو من الحدة منذ بناء الدولة الحديثة - محمد علي وإسماعيل باشا - وحتى تأسيس النظام شبه الليبرالي، ويعود ذلك في تقديري إلى عديد من الأسباب يأتي على رأسها:

1- أن مسارات علاقة المثقف المصري بالدولة والسلطة لم تكن هي ذات الطرق التي اتخذتها في عديد من المجتمعات الأوروبية، منذ قضية درايفوس الشهيرة، وحتى التحولات ما بعد الحديثة الراهنة.

 في الحالات الأوروبية تشكل مصطلح مثقف كدلالة وعلامة على استقلالية مكانة وحضور ودور المثقف إزاء الدولة والسلطة والمجتمع، ومن ثم تشكل حقل المثقف والثقافة في إطار هامش من الاستقلالية مع بعض التوترات إزاء قضايا ذات طابع فكري أو أنسانوي، وفي نطاق الدور الرسالي للمثقف إزاء مجتمعه والقطيعة معه في عديد الأحيان.

2- في المثال المصري، تشكل المثقف الحديث من حركة البعثات الأوروبية التي أوفدتها الدولة لتكوين النخب المدنية الجديدة، ومن ثم كان الهدف الرئيس هو الدور المأمول هو العودة للعمل في إطار بناء تشكيلات ومؤسسات الدولة والمشاركة في إدارتها.

من هنا كان المثقف أحد أبناء الدولة الحديثة، وطرفاً رئيساً في تأسيسها مع رجل الدولة/ الحاكم ثم الطبقة السياسية التي تشكلت مع عهد إسماعيل والبدايات البرلمانية، ثم تأسيس النظام شبه الليبرالي. 3- في ظل بعض الحيوية السياسية التي سادت المرحلة شبه الليبرالية والمجتمع شبه المفتوح وثقافة المدينة الحديثة، كانت العلاقة بين المثقف والسياسي فيها قدر ما من الاحترام المتبادل،..

لأن بعض أركان الطبقة السياسية كانوا من المثقفين الذين انخرطوا في بعض الأحزاب السياسية لا سيما الوفد، والأحرار الدستوريين..

وذلك في ظل هيبة وتقدير لدور المثقف في الدفاع عن الحريات والدستور والاستقلال وتحرر مصر من الاستعمار البريطاني. كان السياسي والمثقف في ظل المجتمع شبه المفتوح جزءاً من محركات عمليات التحديث السلطوي للمؤسسات والقيم السياسية..

وفى التغير الاجتماعي، وفي المسعى الحداثي لتطوير الثقافة المصرية والسعي إلى إعادة قراءة بعض المكونات التراثية وفق رؤى جديدة في إصلاح وتجديد الفكر الديني عموماً والإسلامي على وجه الخصوص.

4- المثقف لعب دوره في التغيير الاجتماعي، وفي السعي لتأصيل التجربة الليبرالية لا سيما في مجال الحقوق الدستورية والحريات السياسية العامة والشخصية، ..

وفي ذات الوقت كان جزءاً من الفاعلين في إطار أجهزة الدولة البيروقراطية من خلال عمل بعضهم في دواليب عملها اليومي، وأيضاً كان دوره السياسي بارزاً، وعلى رأس هؤلاء الباشوات علي مبارك، ومحمد قدري صاحب مرشد الحيران في معرفة أحوال الإنسان، وآخرون.

5- مع تغير طبيعة الدولة المصرية ونظامها شبه الليبرالي إلى الدولة التسلطية بعد ثورة يوليو تغيرت العلاقة بين بعض المثقفين والسلطة، واتسمت بالتوتر والصراع، في ظل نظام تعبوي يؤسس للحشد والتعبئة السياسية والاجتماعية وراء مشروعه الاجتماعي، ومن ثم كان لديه تصور عن دور المثقف كأداة من أدوات الحشد الإيديولوجي وكموظف في إطار أجهزة الدولة الإيديولوجية والبيروقراطية..

وذلك لتحقيق المشروع الاجتماعي والسياسي للناصرية وطنياً وإقليمياً. رفض بعض المثقفين الليبراليين والماركسيين هذا الدور كنتاج لرؤيتهم التحليلية للتسلطية السياسية، ثم دخل هؤلاء في صراع مع النظام.

6- بعض مثقفي اليسار والقوميين وبعض الليبراليين شاركوا بفعالية في تأييد المشروع الاجتماعي لناصر، وفي إطار أجهزة الدولة الإيديولوجية والبيروقراطية، ووجدوا بعضاً من تطلعاتهم في هذا المشروع العدالي والوطني. ومن ثم لعبوا دوراً مهماً في التغيير الاجتماعي، وفي التأصيل الفكري للمشروع الناصري والتبشير الجماهيري بمكوناته.

7- في ظل حكم السادات وموت السياسة انفجر الصراع بين غالب المثقفين اليساريين والناصريين للتغير في طبيعة وسياسات النظام، ومحاولاته توظيف الإسلام في الصراع السياسي والثقافي في المجتمع المصري، ولأنه لم يكن يقدر دور ومكانة المثقف سواء كفاعل في بناء الدولة الحديثة..

وطرف رئيس في إطارها، وأيضاً لأنه كان يعتبرهم خصومه. 8- في عهد مبارك حاول استرضاء بعضهم وإدخالهم إلى حظيرة وزارة الثقافة، إلا أن دور بعضهم في نقد النظام على عديد الصعد الاجتماعية والسياسية والثقافية كان بارزاً، وتراجaع دور مصر الثقافي والسياسي في الإقليم، بالنظر إلى عدم تقديره لدور المثقف التاريخي..

ومن ثم كان المثقف مهمشاً خارج إطار السلطة الثقافية الرسمية. 9- كان الخطاب النقدي لبعض المثقفين أساسياً كأحد محركات التغيير والحراك السياسي والاجتماعي، التي مهدت لانتفاضة يناير 2011، وكان بعضهم طرفاً فاعلاً في تحريك التظاهرات، وفى دعم عملية التغيير.

10- في المراحل الانتقالية تراجع دور المثقف كنتاج للعودة إلى سياسة اللاسياسة أو موت السياسة، وأصاب بعضهم الإحباط والقنوط والإحساس باللاجدوى، كنتاج للممارسات الفظة للإخوان والسلفيين واعتدائهم على الحريات العامة والشخصية وفقدانهم للرؤيا والمشروع، وكان بعضهم جزءاً من تحالف 30 يونيو، إلا أن الوضع الراهن عاد إلى حالة التوتر كنتاج لغياب رؤيا كلية حول مشروع سياسي..

وأيضاً لأن وزارة الثقافة تعاني البيروقراطية وغياب الكفاءة والسياسة الثقافية، واللامبالاة بدور الثقافة في السياسة الرسمية للدولة والنظام. في هذا الإطار على الجميع عدم تناسي دور المثقف التاريخي في بناء الدولة والسياسة ومؤسساتها في مصر، وأنه لا تطوير للسياسة والبلاد والمؤسسات والتنمية من دونه.

 

Email