الحر الميامين..الغر المحجلون

ت + ت - الحجم الطبيعي

كانت ليلة الأحد الثامن من شوال في السنة الثالثة للهجرة - توافق ليلة 24 مارس 625-ليلة تختلف عن بقية الليالي التي عاشها الرعيل الأول في فجر الإسلام. كانت أول ليلة ينام فيها شهداء معركة أحد في قبورهم وكانت ليلة حبلى بالآلام وجراحات نفسية وبدنية في قلوب ونفوس أولئك الحر الميامين الذين اصطحبهم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إلى أُحد ليستشهد على أرضها 70 منهم.

أجل كانت ليلة غير بقية الليالي حيث خيم الحزن على أرجاء العاصمة النبوية وقضى الصحابة ليلتهم تلك بين قائمٍ وراكعٍ وساجدٍ أنابوا إلى ربهم تائبين مستغفرين.

ثم نزلت آيات الرحمن عليهم تضمد الجراح وتهدئ النفوس وتعزي اليتامى والأيامى والثكالى حتى لا يتحول انكسارهم في الميدان إلى قنوط يفل قواهم وحسرة تشل معنوياتهم فكان مما نزل من الذكر الحكيم قوله تعالى } إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ * وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ * وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ، وما أن أتى اليوم الثالث بعد يوم أحد – بحسب سيرة ابن هشام- حتى نادى منادي الجهاد "يا خيل الله اركبي" فقد طلب الرسول عليه السلام من المسلمين الذين قاتلوا معه يوم أحد تحديداً أن ينطلقوا إلى "حمراء الأسد" في طلب جيش أبي سفيان العائد إلى مكة.

يرى أصحاب السير وخبراء الحروب أن ذلك كان يهدف إلى انتشال روح الهزيمة من نفوس أولئك الحر الميامين وإعلام عدوهم بأن ما حصل في أحد لم ينل من إيمانهم وثباتهم على الحق شيئاً بل زادهم عزيمة وتصميماً.

كان يوم الجمعة الماضي -التاسع عشر من ذي القعدة الموافق الرابع من سبتمبر الجاري- يوماً استثنائياً في تاريخ دولة الإمارات العربية المتحدة. ففي هذا اليوم سجل 45 جندياً من أبناء الإمارات أسماءهم في سجل الغر المحجلين بفضل من الله ورحمته بعد أن سلموا أرواحهم على أرض العزة والشرف أرض الجهاد في سبيل الحق المبين.

ورغم الفاجعة والحزن الكبير فقد غطى بلادنا من أقصاها إلى أقصاها شريط الفخر عندما خرجت جماهير الشعب الإماراتي تستقبل بحفاوة وتكريم أحرار الوطن ومغاويره وارتفعت رايات الوطن فوق منازل أهالي الشهداء وذويهم اعتزازاً بقدومهم وترحيباً بالحر الميامين.

إن أول ما ضمد الجراح وعزز الترابط والتلاحم الوطني نعي صاحب السمو رئيس الدولة –حفظه الله- في استشهاد هؤلاء البواسل والتعازي التي قدمها نائبه وولي عهده الأمين وحكام الإمارات وشيوخها -حفظهم الله- لأسر الشهداء ثم الحداد الوطني العام وتنكيس الأعلام وتوحد البث الإعلامي، كما جاءت كلمات صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة "عودنا أهلنا أن ثأرنا ما يبات ولا ننساه واستشهاد عدد من أبنائنا يزيدنا إصراراً وعزيمة" بلسماً وعطراً ارتاحت لشذاه النفوس وازدادت يقيناً بقوة الحق الذي ذهب من أجله هؤلاء الحر الميامين.

وهكذا انقلب الحزن عزة وتحول الألم إلى سكينة فكان يوم وداع الشهداء يوماً استثنائياً رائعاً في أبهى صور تقارب الشعب مع القيادة ووقوف المواطنين خلف جنود قواتنا لترتفع الأكف والأيادي إلى السماء تدعو الغفور الرحيم أن يتقبلهم شهداء أحياء عنده تحقيقاً لوعده الكريم } ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياءٌ عند ربهم يرزقون {. ومن روائع ذلك اليوم هذا التلاحم الوطني الكبير الذي يشهد له الإجلال والوقار اللذان أحاطا موكب وصول الجثامين الطاهرة إلى أرض الوطن وذلك الجمع الغفير من المواطنين والمقيمين الذين توافدوا على المستشفيات وبنوك الدم ليتبرعوا بدمائهم للجرحى النبلاء الشجعان.

إن الفواجع والأزمات والملمات لن تزيد الجنود المغاوير إلا عزماً وتصميماً على متابعة العمل وإكمال المهمة وتحقيق الغايات السامية لعملية إعادة الأمل. إن جنود الوطن هم الحر الميامين لأنهم تجردوا من كل شوائب الدنيا وزخرفها وذهبوا إلى هناك نصرة للمظلوم ودفاعاً عن الحق الساطع المبين، فلا نامت أعين الجبناء.

رحم الله شهداء الوطن الأبرار وعظم الله أجرك يا وطن.

Email