الاضطراب التشريعي الانتقالي

ت + ت - الحجم الطبيعي

غابة من القوانين الأساسية والفرعية، تتشابك وتتعقد منذ تأسيس النظام القانوني الحديث، وثورة يوليو 1952 وحتى المرحلة الانتقالية الثالثة. ثمة سرعة وتسرع في إنتاج التشريعات دونما دراسة موضوعية لنصوصها، وللجوانب الفنية والنفقات السياسية والاجتماعية والدينية لبعض هذه القوانين، وبعد صدورها بعيداً عن حوارات مجتمعية جادة وبين الجماعة القانونية عموماً، ثم يتبين أنها تنطوي على عديد الأخطاء والمثالب في الصياغة العامة المفرطة، وعدم الانضباط المفاهيمي والاصطلاحي واللغوي، والغموض الناتج عن عدم تحديد طبيعة المصالح الاجتماعية والاقتصادية والأمنية المتغيبة من وضع هذه التشريعات، ناهيك عن أنها تؤدى إلى توغل السلطة التنفيذية وأجهزتها الأمنية والبيروقراطية.

أخطاء وابتسارات في الماكينة التشريعية في المراحل الانتقالية التي تحولت فيها السلطة التنفيذية إلى المشرع الاستثنائي دون رقابة برلمانية أو شعبية تؤثر في توجهات عملية تقنين القيم السياسية والأمنية، والمصالح التي يرمى التشريع إلى حمايتها لاعتبارات وطنية وعامة، وتتجاوز الفئات التي ينظم القانون أعمالها ومصالح العاملين فيها، على نحو بات يشكل خطراً في التوافق الوطني.

تصدر قوانين المرحلة الانتقالية معطوبة في بنياتها وصياغاتها، ومحملة بالاستثناءات لوزارات وأجهزة. إن الانفجار التشريعي عموماً في تاريخ النظام التسلطي ما بعد ثورة يوليو، وفى أعقاب المراحل الانتقالية المستمرة منذ 25 يناير 2011، وحتى 30 يونيو 2013 وما بعد، هو ظاهرة هيكلية في إنتاج التشريعات واللوائح التنفيذية لبعض القوانين، على نحو لم يستطع حتى رجال القانون أن يتابعوا الآلة التشريعية سريعة الحركة والإنتاج!

ما هي أسباب ظاهرة الانفجار القانوني، والتدهور في مستويات المهنة التشريعية في المراحل الانتقالية؟

إن تأصيل التردي في المستويات الفنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية لعملية إنتاج القوانين، يتطلب نظرة على تطورات الأزمة الممتدة منذ ثورة يوليو 1952، وإلى المراحل الانتقالية الثلاث، وذلك على النحو التالي:

أولاً: شكلت المرحلة شبه الليبرالية 1923- 1952، مرحلة ازدهار تشريعي بعد اتفاقية مونترية في 8 مايو 1937، حيث وضعت التقنينات الأساسية على النسق اللاتيني الحديث، من حيث تحديد الحقوق والالتزامات في التقنين المدني، وفى تحديد بنية قانوني العقوبات والإجراءات الجنائية، والقانون التجاري والبحري، وقانون الأسرة وفق الشرائع الدينية.. إلخ. من أبرز معالم السياسة التشريعية، هي اعتمادها على المذهب والفلسفة الفردية، ومن ثم، شكلت التقنينات الحديثة هندسة قانونية واجتماعية حداثية لها جذورها في الفكر القانوني الوضعي.

كانت القوانين تعبيراً عن دراسات للفقه والقانون المقارن على المستوى الدولي، ولم تكن فقط محض رغبات للنخبة الحاكمة، وذلك على الرغم من أن التشريعات هي تعبير عن مصالح القوى المسيطرة عموماً، والاستثناءات هو التوازن بين المصالح المتنافسة، أو انحياز الدولة في بعض الأحيان للمصالح العامة للقواعد الاجتماعية العريضة. إن النظام البرلماني كان يعطى مساحة رئيسة لأعضائه في المبادرة بمشروعات القوانين، والرقابة على السلطة التنفيذية، ومناقشة جادة لمشروعات القوانين الحكومية.

ثانياً: السياسة التشريعية بعد ثورة يوليو 1952 وحتى 25 يناير 2011

نستطيع القول إن التاريخ التشريعي طيلة هذه المرحلة، اتسم ببعض من الفوضى والانفجار القانوني، وبروز التناقضات وعدم التجانس في البنية التشريعية الكلية والفرعية، وذلك لعديد الأسباب، منها: 1- إدراك نخبة الضباط الأحرار والتكنوقراط لمعنى القانون ودوره وتمثله للمصالح، حيث غلب عليه الإدراك الأداتي للتشريع، بوصفه أحد أدوات الجبر والإلزام والقسر، وأنه يؤدى في ذاته إلى التغيير الاجتماعي والسياسي.

2- هيمنة التقديرات الأمنية على وضع القوانين من حيث التوازنات بين المصالح المتعارضة، في ظل تراجع أدوار البرلمان وتشكيلاته المتعاقبة، وسيطرة السلطة التنفيذية في مجال تقديم الأغلبية الساحقة لمشروعات القوانين، وتزايد دور القرار الجمهوري بقانون في الحياة القانونية للدولة.

3- سيادة نظام الطوارئ، والقيود المفروضة على استقلال القضاء والقضاة.

4- تراجع مستويات تكوين الجماعة القانونية منذ منتصف عقد السبعينيات.

5- النزعة التجريمية والعقابية في القوانين كنتاج لغلبة النزعة الأمنية.

6- الانفصال بين التشريعات ومصالح الفئات الاجتماعية العريضة.

7- شيوع الفساد في الوظيفة العامة، ما أدى إلى التلاعب بالقوانين، إعاقة تطبيقها.

8- بروز ظاهرة ترزية القوانين وفق أهواء ومصالح الحكم المستمرة أو العارضة.

ثالثاً: السياسة التشريعية في المراحل الانتقالية

1- اتسمت هذه المراحل الثلاث بالفوضى، وسرعة إصدار التشريعات، وذلك دونما رؤية لطبيعة العمليات الانتقالية السياسية والاجتماعية، وإصدار القوانين دون درس لنفقاتها السياسية والاجتماعية.

2- تزايد الأخطاء في الصياغة الفنية والاصطلاحية واللغوية للقوانين، ومن حيث تحديد المصالح المحمية والمخاطبين بالقوانين، وظهور الأعطاب في بنية التشريع في أعقاب إصداره، كنتاج لتدهور مستويات المهنة القانونية.

3- غياب رؤية كلية للقيم القانونية والاقتصادية والاجتماعية التي تحدد السياسة التشريعية وطبيعة انحيازاتها للمصالح الأجدر بالرعاية في المرحلة وتضاغطاتها.

ونحتاج إلى سياسة تشريعية إبداعية وإصلاحية، قادرة على مواجهة متغيرات وتحولات لحظة سياسية واجتماعية مضطربة.

Email