هناك حقائق تستفز الإنسان ولكن الواقعية والهدوء ضرورة للنظر وتحليل الأمور. لقد كان هجوم نوري المالكي رئيس وزراء العراق السابق ونائب رئيس الجمهورية الحالي على السعودية خارج الاطر المقبولة في العلاقات بين الدول حتى في حالة الخلافات السياسية.

وقد ولدت استنكارا وهجوماً من سعوديين وعرب على المالكي وتعريته بل والمطالبة بمحاكمته. وإذا أخذنا الأمور بمبدأ التحليل المنطقي نجد أن للمالكي موقفاً تجاه السعودية ينطلق من مبدأ طائفي.

وهو يقول إن الحكومة السعودية غير قادرة على ضبط التوجه الوهابي التكفيري. وهو يدرك أن الحوادث الإرهابية الأكبر في تاريخ العراق كانت في عهده ولم يستطع أن يضبطها ولا حتى أن يقلل من عددها.

بل ان العمليات الارهابية في عهده استشرت وكانت نتيجة مباشرة لسياسته الطائفية التي أوجدت شرخاً داخل مكونات الشعب العراقي وبدلاً من أن يبادر من موقعه لردم الهوة بين هذه المكونات ساهم في تأجيج الانقسام الطائفي الذي ولد العنف والإرهاب.

مشكلة كثير من السياسيين أنهم ماهرون في تحميل أخطائهم على الغير. وهم يتلونون في كل الأشكال ويعتبرون ذلك جزءاً من الدهاء السياسي. وهو أمر يستطيع الشخص ان يتفهمه لكن المبالغة والكذب المباشر يجعل السحر ينقلب على الساحر.

فيخرج من دائرة الدهاء السياسي الى الغباء الشخصي. وحينما يعتقد شخص ما أنه أذكى من الآخرين فإنه يتورط في تصرفات مخجلة. فصحيح ان ذاكرة الشعوب في منطقتنا غير جيدة ولكن تقنيات الاتصال جعلت الذاكرة قوية، بل وخطيرة ترصد كل كلمة وتوثق كل حادثة، وبالتالي يعطيك صورة عن الاداء بوضوح. لقد عاشت العراق واحدة من عصور الفوضى في فترة المالكي ويقدر المعدل اليومي لعدد القتلى من العمليات الارهابية في الفترة الرئاسية الثانية ما بين ١٥ و٢٠ قتيلاً. خلاف إعداد الجرحى والخسائر المادية الهائلة.

حينما تكون الرئاسة التي هي محور التوازن في الدولة والتي تضمن العدالة بين جميع مكونات الشعب منحازة تكون النتائج كارثية. ولذلك حينما سقطت مدن العراق وكادت بغداد ان تسقط في ساعات ليس ضعفا في الجيش العراقي ولا في إرادة وكفاءة الجندي العراقي بل هي الادارة التي حطمت البنية الداخلية للدولة وهي الطائفية التي أوجدت الفرقة داخل الشعب العراقي. وبقدر ما نحاول ان نكون منصفين في النظر الى فترة اداء المالكي خلال توليه مهام رئاسة مجلس الوزراء، بحيث نحافظ على الحد الادنى من الوسطية إلا أن الحقائق تجعل من محاولة الاعتدال ظلماً للوقائع.

المالكي، الذي يبدو أنه يبحث عن الاضواء والعودة الى المسرح السياسي الفعلي، ارتكب اخطاء كبيرة، وداعش الارهابية كانت حصادا لسياسته الطائفية. ويتوقع من المسؤول بعدما تكتشف الاخطاء والنتائح ان يبادر بالاعتذار وتوضيح الحقائق لا أن يكابر ويمارس سياسته.

وهذه المرة كان الهجوم على السعودية وتحميلها مسؤولية الفكر التكفيري. بل وكسر حاجز اللياقة في الاختلاف وطالب بفرض وصاية على السعودية. وهو تعبير ينطبق على الدول الفاشلة.

وبمعيار محايد لو تم التقييم أي الدول اقرب الى تعبير الدولة الفاشلة السعودية أم العراق فالاجابة يدركها المالكي نفسه. خاصة ان في فترته قاد العراق الى هذا الوضع المأساوي. وما يعيشه العراق الآن هو حصاد لتلك المرحلة بكل ما فيها من سوء ادارة وتكريس للطائفية.

وهجوم المالكي على السعودية ليس الأول ويبدو أنه ليس الأخير حسب تصريح المكتب الاعلامي له الذي قال ان هذه التصريحات ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، مما يكشف الموقف الشخصي. وحينما تتحول السياسة الى مواقف شخصية يخسر الاثنتين السياسية والشخص.

فطبيعة السياسية ابقاء مجال للتراجع حتى يصير هناك مرونة للمتغيرات ولكن في حالة المالكي لأن الشخصي يطغى على السياسي فهو يصرح بأنها لن تكون الأخيرة.

والغريب ان هذه التصريحات تصدر وهو يشغل منصب نائب رئيس الجمهورية. وكان يتوقع ان يكون رد فعل رئاسة الجمهورية أقوى وهي التي حاولت ان تعتبر هذا التصريح تعبيرا عن رأيه الشخصي، بينما هو يشغل منصبا حكوميا. وربما أفضل تعبير لوصف مرحلة المالكي بأنه غادر بعد أن سلم نصف البلاد لتنظيم داعش والنصف الآخر للميليشيات الإيرانية.

السعودية اكثر من تضرر من الارهاب ولكنها حينما حاربت الارهاب واجهته بواقعية وكشفت عن خلايا ارهابية وعن عمليات كانت على وشك الوقوع، هذه هي المواجهة مع الواقع وليس الهروب وتغطية الاخطاء بتحميلها المسؤولية دولاً أخرى. وهي التي بادرت بعمل سياج امنى بين السعودية والعراق لمنع اي تسلل ارهابي او عسكري من الطرفين.

أي ان السعودية مثلها مثل غيرها تعرض لوباء الارهاب وهي تحاربه امنيا وفكريا وسوف تظل تحاربه، وهناك نقاش داخل السعودية حول افضل السبل لمحاربة الارهاب فكريا. ولكن هذه المواجهة والنقاش هو الذي يحمي الدولة من الانزلاق في هاوية العمليات الإرهابية.

وكان الاجدى للمالكي حينما كان على رأس السلطة ان يتبع هذه السياسة وأن يجمع العراقيين بدلاً من أن يفرقهم.