نهاية التاريخ.. أم الجغرافيا؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

يجب ألا نستهين بما طرأ على حياتنا من تغيرات خلال الخمسين عاماً الماضية، ففترة خمسين عاماً، في أي عصر، ليست بالفترة القصيرة. إنني أتذكر مثلاً أبي وأمي، في منتصف القرن العشرين، عندما كانا يصفان كيف كانت الحياة في مصر في أوائل ذلك القرن، فقد بدت لهما الحياة في 1900 شيئاً مختلفاً تماماً عما أصبحت عليه في 1950، وكذلك بدت لنا عندما كنا نستمع إلى وصفهما لها.

لابد أن ندرك أن ما يطرأ على نمط الحياة من تغيرات لابد أن يحدث بمعدلات أسرع كلما مر الوقت، إذ إن التطور التكنولوجي يتسارع معدله، ومن ثم فإن ما كان يستغرق خمسين عاماً من قرنين قد يستغرق عشرة أعوام مثلاً أو أقل في حياتنا المعاصرة.

من أهم ما حدث خلال حياتي أنا من تغيرات، من حيث حجم أثرها على نمط الحياة في مصر، ما حدث منذ نحو أربعين عاماً، وأطلق عليها وقتها وصف «الانفتاح»، وما سمي «الشركات متعددة الجنسيات».

بعد خمسة عشر عاماً أخرى سمعنا عن سقوط حكومات المعسكر الاشتراكي، الواحدة بعد الأخرى، بما في ذلك الاتحاد السوفييتىي نفسه، وتفككه إلى عدة دول. قيل لنا وقتها إن السبب في ذلك هو شوق شعوب أوروبا الشرقية إلى الديمقراطية، ثم تبين لنا بعد قليل أن المكسب الذي حققته هذه الشعوب في هذا الأمر لم يكن بالقدر الذي كان متوقعاً.

كان وراء هذا كله، كما يبدو واضحاً لنا الآن، ثورة تكنولوجية هي ما يعرف باسم «ثورة المعلومات والاتصالات»، وهي التي سمحت للشركات الكبيرة بأن تصبح شركات عملاقة ومتعددة الجنسيات، وهي التي أغرت هذه الشركات بغزو المزيد من بلاد العالم الثالث وإجبار هذه الدول على الانفتاح، وأغرتها أيضاً بغزو الدول الاشتراكية وإجبارها على التحول إلى نظام السوق. لم يكن الكاتب الأميركى فرانسس فوكوياما إذن متوفقاً تماماً في كتابه الشهير الذي صدر في 1992، عندما صور ما يحدث بأنه «نهاية التاريخ»، وهو عنوان ذلك الكتاب.

كان أهم ما لفت نظر فوكوياما هو التطور الإيديولوجي الذي حدث في الدول الاشتراكية، فتخلت عن الاشتراكية وعادت إلى نظام السوق، بينما اشتد ساعد نظام السوق في الدول الرأسمالية، وبدا وكأنه هو النظام الوحيد القادر على البقاء. نهاية التاريخ إذن في نظر فوكوياما تتمثل في الانتصار الحاسم والنهائي للنظام الرأسمالي، نهاية الصراع الأيديولوجي الذي بدا لأكثر من مئة عام وكأنه يمكن أن يهدد هذا النظام.

كما يبدو هذا التشخيص الآن، وبعد مرور ربع قرن على نشر كتاب فوكوياما، قصير النظر. فها هو النظام الرأسمالي يواجه أزمة بعد أخرى، حتى في عقر داره، وها هي الحركات المناهضة له تنشط من جديد، في بلد بعد آخر، من سياتل في أواخر القرن، إلى واشنطن في حركة «احتلال وول ستريت» منذ أربع سنوات، إلى محاولة اليونان تحدى الاتحاد الأوروبي في الأسابيع الأخيرة. من المؤكد الآن أنه لا صحة للقول بنهاية الصراع الإيديولوجي، ناهيك عن نهاية التاريخ.

الأقرب إلى الحقيقة بكثير هو القول «بنهاية الجغرافيا»، إذ يبدو بعد مرور ما يقرب من خمسين عاماً على بداية ثورة المعلومات والاتصالات، أننا نعيش الآن عصراً مختلفاً جداً عما عهدناه في الخمسينيات أو الستينيات من القرن الماضي، وأننا، كلما تلفتنا حولنا صادفنا من مظاهر التغير ما يكاد يصل إلى درجة «الانقلاب»، سواء تعلق الأمر بحياتنا اليومية وعلاقاتنا الاجتماعية، أو بمصادر قلقنا أو فرحنا، أو علاقة صغار السن بالكبار، أو بمركز المرأة في المجتمع، أو بقوة وضعف شعورنا بالولاء للدول القومية، أو بنوع ما يشن من حروب أو بمركز الدولة بالمقارنة بمركز الشركات، وكذلك ما طرأ من تغير على معنى شعارات مثل الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية...الخ، وكلها تغيرات وثيقة الصلة بما حدث من تقارب بين دول العالم بسبب ثورة المعلومات والاتصالات.

إن الكلمة التي تلخص أهم ما حدث من تغيرات خلال الخمسين عاماً الماضية هي «العولمة»، وما أكثر ما تتردد هذه الكلمة في وسائل الإعلام وعلى ألسنة الجميع، وما أشد ما نحتاج إليه، بسبب العولمة، من إعادة النظر في كثير مما اعتدنا عليه من أفكار، وإعادة تعريف ما نستخدمه من شعارات، وإعادة ترتيب ما اعتدنا تبنيه من أولويات. ومع ذلك ما أقل ما نصادفه من محاولات في هذا السبيل وما أقل ما نبديه من شجاعة في التصدي للأفكار والشعارات الشائعة سواء المتعلقة بالقومية أو الديمقراطية أو الحرية أو العدالة الاجتماعية أو التنوير أو مركز المرأة...ألخ

فما أجدرنا الآن بالاعتراف بحقيقة وأهمية ما حدث في كل هذه الجوانب كلها من حياتنا، نتيجة ما حدث خلال الخمسين عاماً الماضية على أمل أن نبدأ في البحث عن التشخيص الصحيح لما حدث.

Email