عن الجدل بين الهوية والعقلانية

ت + ت - الحجم الطبيعي

الانقسام الحاد القائم الآن بين ما يسمى بتيار الإسلام السياسي والمتعاطفين معه، وبين تيار الليبراليين أو العلمانيين يمكن وصفه وتشخيصه على أكثر من وجه‏.‏

فمن الممكن تفسير هذا الانقسام باختلاف ظروف النشأة ونوع التربية، أو اختلاف نوع الثقافة التي يتعرض لها كل فريق، ومدى اتصاله بالثقافة الغربية، أو اختلاف المزاج، أو اختلاف الظروف الاقتصادية، بل وقد يرى فيه البعض صورة من صور الصراع الطبقي.. الخ.

قد يكون في كل من هذه التفسيرات جزء من الحقيقة، ولكن أريد الآن أن أضيف تشخيصاً آخر، وهو النظر إلى هذا الانقسام على أنه صراع بين فريق يؤكد ضرورة التمسك «بالهوية» وفريق يدعو إلى التزام «العقلانية».

يجب عليّ أولاً أن أوضح ما أقصده بالهوية والعقلانية من الممكن أن نفهم «الهوية» بمعنى الصفات التي تميز شخصاً عن غيره أو أمة عن غيرها، سواء تعلقت هذه الصفات بالعقيدة، أو المزاج والميول، أو التفصيلات المتعلقة بالفنون ووسائل التعبير عن النفس، أو أنماط السلوك الاجتماعي التي تميز العلاقات العائلية ومركز المرأة.

الخ. أما «العقلانية» فأقصد بها: تحكيم العقل دون غيره في التمييز بين الصواب والخطأ، بين ما يجوز فعله أو لا يجوز.

وفي اختيار التنظيم السياسي والاجتماعي الأنسب، والسياسة الاقتصادية الواجبة الإتباع، دون التقيد بالأفكار الشائعة لمجرد أنها شائعة، أو بما جرى العمل به لمجرد أنه المألوف، أو بأفكار وأقوال الزعماء والعظماء لمجرد أنهم محبوبون، أو بأفكار وأقوال السلف لمجرد أنه كان سلفاً صالحاً.

دعنا نتفق على أن هناك جاذبية واضحة ومزايا لا تنكر للتمسك بكلا الأمرين: الهوية والعقلانية. فمن الضعف أن يستهين المرء بمزايا الولاء من جانب أفراد أي أمة، لما يميز هذه الأمة عن غيرها، أي التمسك بهويتهم، وعدم التفكر للعقيدة السائدة أو الخروج على ما ألفه الناس وأحبوه واتفقوا عليه.

إن التمسك بالهوية قد لا يكون ضرورياً فقط لتجنب التوتر الاجتماعي بين أفراد الأمة الواحدة، بل قد يكون ضرورياً للمحافظة على الأمة واستمرارها.

كذلك من الذي يستطيع أن ينكر مزايا تحكيم العقل وتغليبه علي الاعتقاد في الخزعبلات والخرافات فيما يعرض للأمة من مشكلات، وأن ينكر مزايا التجرؤ على تحدي القديم والمألوف إذا تعارض هذا القديم مع مصالح الأمة ومطالب رقيها؟ احترام الهوية مطلوب إذن، وكذلك العقلانية. ولكن التعريفين اللذين قدمتهما لكل من الهوية والعقلانية جديران بأن يكشفا لنا احتمال الصدام.

من المهم الآن أن نلاحظ كم هي سعيدة الحظ تلك الأمم التي حققت التقدم الحضاري قبل غيرها، وكم هي سيئة الحظ تلك الأمم «المقلدة» التي تنقل عن غيرها نتائج (أو مظاهر) هذا التقدم، دون أن تبتعد عنها بنفسها.

إن الأمم الرائدة في مضمار التقدم الحضاري تدفع ثمناً أقل بكثير في صورة التخلي عن المألوف، بينما تدفع الأمم المقلدة أو التابعة ثمناً فادحاً يتمثل في التخلي المأساوي عن جانب بعد آخر من هويتها.

إن الأمثلة التي يمكن تقديمها على هذه المعاناة، التي تصيب الأمم التابعة في مضمار التقدم الحضاري، كثيرة ويصعب حصرها، ولكن لا شك عندي في أن الأمة العربية قد دفعت ولا تزال تدفع ثمناً باهظاً لها، لأنها كانت ولا تزال من بين هذه الأمم التابعة في مضمار الحضارة الحديثة وليست رائدة فيها.

بل وكثيراً ما يخطر لي أن معاناتنا الحالية في مصر، والتي تتخذ شكل الصراع الدائر الآن بين أنصار التمسك بالهوية وأنصار إعلاء شأن العقلانية هي مجرد حلقة في سلسلة طويلة من التضحيات التي بدأت منذ اتصالنا بالحضارة الغربية الحديثة.

 

Email