أزمة اقتصادية..أم مأساة إغريقية؟!

ت + ت - الحجم الطبيعي

للعولمة مزاياها ومساوئها، ولكن من الممكن أن نقول باطمئنان إن مزاياها (الاقتصادية على الأقل) تفوق مساوئها طالما كان العالم الخارجي، الذي يطوي الدولة بجناحيه، في صحة جيدة، وطالما كانت العلاقة بين الدولة وبين هذا العالم الخارجي، علاقة الند بالند، وليست علاقة خضوع من جانب وسيطرة من جانب آخر.

خطر لي هذا وأنا أتتبع التطورات المثيرة التي مرت بها اليونان في السنوات الأخيرة، وتحولت فى الأسابيع الأخيرة إلى دراما اهتم بها العالم كله، وتابع أحداثها ساعة بساعة.

القصة قد تبدو فى البداية مجرد أزمة اقتصادية حدثت هذه المرة في اليونان، كما تحدث من حين لآخر في دولة بعد أخرى. ولكن الأمر هنا مختلف. فالأزمة طالت حتى تجاوز عمرها خمس سنوات، والتدهور في مختلف المؤشرات الاقتصادية الأساسية فاق الحدود المألوفة.

القصة لابد إذن أن تهم الجميع، إذ تبدو أنها قصة تتكرر في كل مكان، وإن كانت بدرجات متفاوتة. الفقراء يخضعون لتسلط الأغنياء، ويجبرون دائما على المزيد من التضحيات، وأغنياء الدولة التي تمر بالأزمة، ينضمون إلى أغنياء الدول الأخرى، يؤيدونهم في سحق فقرائهم، لتمكينهم من استمرار ما يمارسونه من فساد. الدول الصغيرة يجري إغراؤها بالانضواء تحت لواء العولمة، ولما يبدو للعولمة من مزايا، ولكن هذه الدول الصغيرة هي أول ضحايا أي أزمة تمر بها الدول الكبرى، بينما قد تكون هذه الأزمة نتيجة مباشرة لما ارتكبته هذه الدول الكبرى من أخطاء.

لقد استمرت اليونان في تحقيق معدل معقول للنمو حتى وقعت الأزمة المالية العالمية التي بدأت بانهيار بعض الشركات الكبرى في الولايات المتحدة في 2008. ومنذ هذا التاريخ بدأ تدهور الاقتصاد اليوناني، لاعتماده الشديد على التصدير، خاصة في خدمات السياحة والملاحة البحرية..ولكن المعاناة لابد أن تزيد في دولة تشتد فيها درجة الفساد، وتزيف فيها الإحصاءات، وينتشر التهرب من الضرائب. لقد انتشر الحديث عن عدم مصداقية الإحصاءات الرسمية اليونانية، وقدر أن الدولة حصلت من الضرائب في 2012 أقل من نصف المستحق لها، وفى السنة نفسها ذكر أحد التقارير الدولية أن اليونان من أكثر الدول فسادا من بين دول الاتحاد الأوروبي.

لم يسمح الوضع السياسي فى اليوناني إذن، لعدة سنوات، باتخاذ إجراءات لمواجهة الأزمة الاقتصادية، عدا الالتجاء إلى الاقتراض من البنوك الأوروبية ومن صندوق النقد الدولي، رغم قسوة شروط هذه القروض. ثم تكرر العجز عن السداد بسبب استمرار الأزمة العالمية من ناحية واستمرار الفساد من ناحية أخرى.

ثم جاءت إلى الحكم في اليونان( منذ شهور قليلة) حكومة من نوع جديد، أرادت أن تضع حدا لهذا التردي بأن تحاول مقاومة التسلط الخارجي( من البنوك الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي) وتعالج الفساد الداخلي في الوقت نفسه. كان هذا هو مغزى الاستفتاء الذي طرحه رئيس الوزراء اليساري الجديد (تسيبراسTsepras)، في الأسبوع الماضي، إذ طلب من شعبه الاختيار من أن يقول نعم أو يقول لا ردا على آخر طلبات الاتحاد الأوروبي بالمزيد من التقشف، في مقابل دفعة أخرى من القروض. كان قول لا معناه أن تمتنع اليونان عن السداد طبقا للبرنامج الزمني الذى يتطلبه الاتحاد الأوروبي، ومن ثم تمتنع عن اتخاذ إجراءات التقشف المطلوبة من أجل ضمان السداد طبقا لهذا البرنامج. وقد أعطى الشعب اليوناني صوته بالرفض ( بنسبة61%).

كان هذا التصويت بالرفض ينذر بالطبع بمتاعب ومشقة، ولكن متاعب من نوع آخر. فهو قد يعني الاضطرار للخروج من الاتحاد الأوروبي، والتخلي عن العملة الأوروبية( اليورو) والعودة إلى العملة الوطنية ( الدرخما)، أي الانسحاب بدرجة أو بأخرى من " من العولمة"، والاعتماد بدرجة أكبر على النفس. ولكن الاعتماد على النفس يعني بالضرورة مقاومة الفساد الداخلي حتى يمكن توجيه الموارد الوطنية إلى ما يحتاجه الوطن حقا.

لم يكن المسار واضحا تماما إذن، أمام من يصوتون بالفرض، ولكنه بدا وكأنه الموقف الوحيد الذي يتسم بالشجاعة وتحدي الإذلال، أملا في الخروج من نفق مظلم طويل، رغم غموض ما ينتظرهم خارج النفق. كان من الطبيعي أيضا أن يستبد الغضب بالدول والمؤسسات المالية الكبرى في الاتحاد الأوروبي . فالبنوك تريد استرداد أموالها، والحكومات الأوروبية ( ومعها صندوق النقد الدولي) تعتبر نفسها ممثلة لهذه البنوك أكثر من تمثيلها للشعوب.

لم يكن هناك بد من أن يرى العالم مشهدا يقف فيه طرفان موقفا يتربص فيه كل منهما بالآخر. كان تصويت اليونانيين بتأييد الحكومة التي ترفع شعار الاستقلال والكبرياء القومي حتميا، إذ شعر فقراء اليونانيين بأنهم، برفضهم شروط الدائنين، ليس لديهم في الحقيقة ما يخسروه، سواء انتصرت الحكومة أو انتصر الدائنون، فمهما كان ما يمكن أن يتعرضوا له من عقوبات إذ اضطرت حكومتهم للتراجع، فلن يكون حالهم حينئذ أسوأ مما كان قبلها، مع وجود احتمال، مهما كان صغيرا أن ينتصروا في النهاية، برضوخ الدائنين وقبولهم إلغاء جزء صغير أو كبير من الديون.

ليست أحداث اليونان الأخيرة إذن مجرد أزمة اقتصادية بل هي أيضا بمعنى من المعاني تراجيديا إغريقية، يمكن التنبؤ بنهايتها متى عرفنا البداية.

عندما سئل المفكر الأميركي المعروف ناعوم تشومسكي عن رأيه في الأزمة اليونانية قال إنها" حرب طبقية" وأظنه كعادته قد وضع يده على لب المشكلة. ولأنها "حرب طبقية" فمهما كانت تطوراتها بين يوم وآخر، فإنها لابد أن تطول. قد يتنازل أحد الطرفين عن بعض مطالبه مؤقتا، ولكنه سيعود للقتال من جديد.

Email