نماذج الدول الهشة العربية

ت + ت - الحجم الطبيعي

الدولة القومية المصرية الحديثة التي تشكل أهم إنجازات المصريين منذ تأسيسها في عهدي محمد علي وإسماعيل باشا، لا تزال الأكثر رسوخاً وعمقاً في الوعي الجمعي وفي ثقافة الأمة المصرية، ومن ثم لا تزال تمتلك القدرة على مواجهة حالة عدم الاستقرار والاضطراب والفوضى في الإقليم، وذلك رغماً عن التحديات البنيوية الكبرى وبعض أشكال الضعف في أدائها، وذلك إذا قورنت بنماذج الدول العربية الهشة، أو تلك التي انهارت في عالمنا العربي.

إن أخطر ما في المشاهد السياسية المتغيرة في الإقليم أنها تشير في غالبها إلى الضعف البنيوي في دولة ما بعد الاستقلال في المنطقة في إطار مجتمعات انقسامية متعددة المكونات الأولية – طوائف وقبائل وأديان ومذهبيات وعرقيات ومناطقيات.. الخ - وتنطوي على صراعات تاريخية، وخرائط تمت صياغتها في إطار سايكس بيكو.

من هنا حاولت نخب ما بعد الاستقلال أن تؤسس للتكامل الوطني من خلال استراتيجيات بوقعة الصهر بقوة أجهزة الدولة القمعية القاسية، والإيديولوجية إلا أن أخطر ما فيها تمثل في أن القمع الرمزي والمادي معاً، كان مؤسساً على تغليب انتماءات النخب الحاكمة الأولية العائلية، والقبلية والمناطقية - والدينية والمذهبية والعرقية، أي أن إيديولوجيات دولة ونظم ما بعد الاستقلال مارست سياسات إقصائية للمكونات الأولية لصالح بعضها، الذين تحولوا إلى المكون الرئيس والفاعل في الحكم وصناعة السياسات والقرارات، والأخطر في محاور عمليات التوزيع للدخل القومي، والاختيارات التنموية والاقتصادية لإعادة إنتاج هذه النخب السياسية لذاتها ومصالحها في إطار الدولة التي اختزلت لتغدو دولة / النظام السياسي، ودولة/ النظام الرئيس.. الخ ومجموعة من الأزلام والموالين، ناهيك عن استبعادات جيلية حتى وهنت الدولة/ النظام في ظل شيخوخة سياسية وفكرية وجيلية أثرت سلباً على جمود وسكونية الدولة وأجهزتها وأفكارها وسياساتها، وهو ما أدى إلى استبعادات جيلية حتى داخل وحول النخب ذاتها من الأجيال الأصغر سناً، على نحو أدى إلى انسداد أبواب الفرص السياسية للصعود والحراك القيادي لأعلى لدى هؤلاء، مما أدى إلى تراكم فوائض الغضب، وفقدان الأمل، والأخطر نقص التجارب والخبرات السياسية و(الدولتية) في إطار دوائر الحكم وأجهزة الدولة الأساسية.

إن الإقليم ودوله المختلفة في أعقاب الانتفاضات الجماهيرية المجهضة فتح المجال أمام موجات تلو أخرى وجماعات إرهابية ترفع الأقنعة الدينية شارة وعلامة للتحرك على الأرض وسط حواضن اجتماعية لم تجد بداً من التعامل معها في سوريا والعراق، لأن الدولة الهشة أقصت هذه المكونات على أسس مذهبية وتهميش اجتماعي وتنموي ومذهبي، ومن ثم أسهمت هذه المكونات في تمدد داعش والنصرة وغيرها ومحاولتهم تشكيل شبه دولة على الأرض.

الأخطر أن نخب الدولة الهشة – في عديد أمثلتها - لعبت بالدين كقناع للقمع الرمزي والإيديولوجي، ولفرض التعبئة السياسية والاجتماعية بقوة هذا النمط من القمع، لكن لم يدرك هؤلاء أن الدين والمذهب ليس جزءاً من الملك الوضعي العضوض، وإنما يمكن للآخرين أن يوظفوه في ذات الوظائف السياسية، أو في وظائف مضادة للحكم، في ظل غياب لشرعية مؤسسة على الديمقراطية والمشاركة والتأييد الشعبي. من هنا انتقلنا من الدين إلى المذهب، ثم إلى تشظي التفسيرات والجماعات داخل ذات الدين والمذهب، وتحولت السردية التأويلية الكبرى حول الدين التي اعتمدت عليها النظم الحاكمة إلى شظايا، وتنكسر مثلها مثل السرديات والخطابات الإيديولوجية الكبرى في عالم ما بعد حديث.

لم يعد الدين حكراً على أحد في استخداماته السياسية، وهو ما فتح الباب واسعاً عن توظيف دهري للمقدس في العمليات السياسية والإرهابية ولم يعد أحد أدوات التوحيد الرمزي الوطني، وإنما تحول إلى أحد أدوات وآليات توسيع الانقسامات الداخلية والعربية معاً. الأخطر أن بعضهم استخدمه قناعاً لإرهاب الدولة الوطنية داخلياً، وآخرين وظفوه قناعاً ضدها، وضد المكونات الاجتماعية والدينية والمذهبية الداخلية.

لعديد الأسباب السابقة وغيرها، أصبحت الدولة القومية والأمة المصرية – في الحد الأدنى من تماسكها وتجانسها الداخلي - هي المثال الأبرز على كفاءة وحيوية مصر على مواجهة هذا النمط من الجماعات الدينية السياسية، وأفكارها حتى ولو راقت بعض هذه الأفكار الإيديولوجية لبعض المصريين لعديد الأسباب التي تحتاج إلى مواجهتها عند المنابت والجذور من هنا الدولة المصرية وأجهزتها استنفرت ووراءها الأغلبية الساحقة من الأمة لمواجهة سياسة التغيير الجذري لنمط حياتها الحديث والمعاصر من أجل بناء يوتوبيا متخيلة تفرض قسرياً عليهم باسم تأويل ديني وضعي قديم يراد له أن يكون هو الدين ذاته.

دون فهم لثقافة ورمزية الدولة المركزية النهرية في الوعي الجمعي للأمة – وجذورها التاريخية العميقة - لن يتم فهم العروة الوثقى بين جيش مصر وشعبها - وفق صديقنا الراحل المقيم أنور عبد الملك -، ولن يفهم أيضاً دور المثقف الطرف الرئيس في بناء الدولة والأمة الحديثة، رغماً عن اختلاف مساره وتطوره ودوره عن وضعيات المثقف في التاريخ الأوروبي والعالمي والمصري. كان للمثقف دوره الخاص مصرياً حتى قبل دور مثقفي آسيا في النهضة الراهنة لبعض دولها.

إن الحالة الراهنة في الإقليم، تتطلب التماسك الوطني وإعادة النظر لتجديد الدولة المصرية وأجهزتها، من خلال الديمقراطية والحريات ودولة القانون، وتجديد النخب السياسية والنظام.

Email