في ذكرى اقتصادي عظيم

ت + ت - الحجم الطبيعي

منذ مئة عام (1915)، ولد في جزيرة صغيرة (سانتالوشيا) من جزر الهند الغربية، التي كانت مستعمرة بريطانية في ذلك الوقت، طفل أسود البشرة، لأسرة كثيرة العيال ومتوسطة الحال، ولأبوين يشتغل كل منهما بالتدريس.

تبين مع الوقت أن هذا الابن حاد الذكاء، إلى درجة قد تصل إلى العبقرية، جعلت منه واحداً من أكبر الاقتصاديين في النصف الثاني من القرن العشرين، ومن أعظم من كتب في التنمية الاقتصادية. حصل على جائزة نوبل في الاقتصاد في سنة 1979، فكان أول رجل أسود البشرة يحصل على هذه الجائزة في غير مجالي السلام والأدب.

لم نكن نعرف عنه كل هذا عندما ذهبنا إلى بريطانيا في أواخر الخمسينيات من القرن العشرين، نحن الطلبة المصريين المبعوثين لدراسة التنمية الاقتصادية، التي كانت قد أصبحت في ذلك الوقت أكثر الموضوعات شهرة وجاذبية لطلاب الاقتصاد الآتين من العالم الثالث.

سمعنا وقتها عن كتاب مهم لا بد من قراءته، اسمه «نظرية النمو الاقتصادي» لمؤلف اسمه «وليام أرثر لويس»، وهو اسم إنجليزي، لا يوحي أن صاحبه ينتسب لأحد أفقر بلاد العالم، وصف هذا الكتاب عند صدوره في 1955 بأن من الممكن مقارنته بكتاب آدم سميث الشهير (ثروة الأمم)، إن كان سميث يتكلم عن أغنى دول العالم، وآرثر لويس يصف الحال في أفقرها.

هكذا قضينا فترة البعثة ونحن نحمل لكتاباته احتراماً كبيراً قبل أن نعرف شيئاً عن نشأته ولون بشرته.

بمناسبة حصوله على جائزة نوبل، طلب إليه أن يكتب نبذة عن تاريخ حياته، فذكر بعض الوقائع الطريفة التي تستحق أن تروى. من ذلك أنه أصيب وهو في السابعة من عمره بمرض منعه من الذهاب إلى المدرسة لمدة ثلاثة أشهر، فتولى أبوه تعليمه خلال هذه الفترة، فإذا به لدى عودته إلى المدرسة يكتشف أن ما تلقاه من أبيه من دروس في البيت خلال ثلاثة أشهر، يزيد عما يتلقاه التلاميذ في المدرسة خلال عامين، وترتب على ذلك أن تم نقله إلى فصل أعلى، مع تلاميذ يكبرونه بعامين.

ذكر أيضاً أنه بعد أن تخرج بتفوق في كلية لندن للاقتصاد، طلب منه الاقتصادي الشهير فردريك هايك، وكان وقتها رئيساً لقسم الاقتصاد، أن يقوم بإلقاء محاضرات على الطلبة عن التطور الاقتصادي في أوروبا بين الحربين العالميتين، فقال له لويس إنه لا يستطيع ذلك لأنه لا يكاد يعرف شيئاً عما حدث لأوروبا في هذه الفترة، فجاءت الإجابة التالية من هايك، والتي ظل لويس يذكرها، لا شك لأنه وجد من تجربته بعد ذلك ما يؤيدها (كما وجدت أنا أيضاً) أن أفضل طريقة لاكتساب المعرفة عن شيء ما هي أن تقوم بتدريسه.

أثناء إقامته بلندن قام برحلة إلى الدانمارك، ولفت نظره الفرق الواضح بين طريقة معاملة الدانماركيين لأصحاب البشرة السوداء، عن معاملة الإنجليز لهم. قال إنهم في الدانمارك لا يظلون يبحلقون في وجهك تعجباً من لون بشرتك، كما يبحلقون في لندن.

نشر آرثر لويس خلال وجوده بمانشستر مقالاً شهيراً بعنوان: «التنمية الاقتصادية في ظل وجود كمية غير محدودة من القوة العاملة»، أثار اهتمام المشتغلين بالتنمية، وفي ظل فترة طويلة يعتبر من أهم ما كتب عن التنمية، كما قمنا نحن الاقتصاديين المصريين بترجمته ونشره في مجلد أصدرته جمعية الاقتصاد السياسي في سنة 1968، بعنوان (مقالات مختارة في التنمية والتخطيط الاقتصادي). وقد أعدت قراءته منذ أيام قليلة، عندما قرأت عن مرور مئة عام على ميلاد الرجل، راعتني أشياء جديدة لم أكن قد لاحظت أهميتها عندما قرأتها لأول مرة في لندن، وراعني على الأخص كم يعتبر هذا المقال ملائماً تماماً لحالة مصر الآن.

لا يهم آرثر لويس كثيراً ما إذا كان هذا يحدث بين القطاع الخاص أو بيد الدولة، المهم هو تشغيل العمال على هذا النحو. كذلك لا يهمه كثيراً ما إذا كان الاقتصاد منغلقاً أو منفتحاً، فرأس المال الأجنبي يمكن أن يسهم في التنمية ولكن بشرط هو (على حد تعبيره) «أن يؤدي إلى ارتفاع الإنتاجية في تلك السلع التي تنتجها هذه البلاد بغرض استهلاكها محلياً، إذ بغير ذلك لن يرتفع مستوى الأجر الحقيقي فيها».

Email