العمل والمعنى والحياة

ت + ت - الحجم الطبيعي

يبدو الكسل ظاهرة اجتماعية ممتدة في المجتمع طيلة أكثر من أربعة عقود ولا يزال، وهو ما يتجلى في الفكر الكسول، والسلوك الكسول، وأشكال متعددة من اللامبالاة بالزمن ومعناه واقتصادياته والتباساته وفوضاه! هل تحول الكسل إلى ثقافة؟

عديد الأسباب التي يمكن أن تفسر ظاهرة الكسل «الفردي» أو الجماعي داخل أجهزة الدولة عموماً، ولاسيما جهازها البيروقراطي المتضخم والذي يتسم بضعف الكفاءة، ومحدودية الإنجاز وغياب الاحترافية والمهنية في أداء العمل والترهل الشائع!

بعض الكسل مرجعه يعود إلى نمط من الاتكالية والقدرية الذي يشيع بين البعض كقيمة سلبية ناتجة عن إدراك شائع لعلاقة بعضهم بالطبيعة والماورائيات ونسبة كل الظواهر الاجتماعية لها، ومن ثم عدم الإيمان بالإرادة الإنسانية وقدرتها على التغيير والبناء ومواجهة التحديات المختلفة التي تواجه «الفرد»، والجماعة، ورخاوة استجاباتهم الخلاقة لها. ثمة حالة من الاستلاب للإرادة «الفردية» والجماعية والإحساس باللاجدوى والوهن الشديد إزاء عالم يتغير بسرعة شديدة وكثافة غير مألوفة.

يبدو أن بعضا ورث قيمة سلبية حول علاقتهم بالدولة التي تحولت لديهم إلى كائن شبه أسطوري تعقد عليه كل المطالب الاجتماعية والسياسية في توفير العمل، والأكل والشرب، والأمن، والسكن ... إلخ! الدولة في هذا النمط الإدراكي لدى بعضهم أصبحت هي المسؤول الأول عنهم، ومن ثم يعيد هذا الإدراك معنى الدولة البطريركية التي تلعب دور الأب الكبير ومسؤولياته وفق ما سار طيلة مراحل تاريخية طويلة في الثقافة البطريركية / الأبوية.

من هنا استبدل بعض المصريين مسؤولية الدولة عن حياتهم بديلاً عن مفهوم المسؤولية الفردية والجماعية عن أنفسهم. يعود هذا الفهم الشائع إلى أن الفرد كفاعل اجتماعي لم يولد تماماً في الثقافة المصرية، ومن ثم غابت فكرة المسؤولية الفردية المرتبطة بالفاعل الاجتماعي حر الإرادة والمشيئة والقادر على اتخاذ قراراته حول حياته ومصيره، وقبول الثمن الاجتماعي لهذه الاختيارات.

إن الطبيعة المركزية/ النهرية التاريخية للدولة، وهرمية جهازها البيروقراطي الضخم أسهمت في فرض هذا النمط من ثقافة اللامسؤولية والتهرب من مسؤولية اتخاذ القرار.

صحيح أن ثمة نموا في عمليات الفردنة وميلاد الفرد عموماً من خلال استخدام تقنيات الثورة الرقمية في عديد مستوياتها ولغتها ووسائطها، مع التحول إلى المشروع الرأسمالي، إلا أن بعضا من تراكمات الثقافة البطريركية والأبوية التقليدية والمحدثة لا تزال آثارها فاعلة لدى بعض الشرائح الاجتماعية المعسورة من المصريين، بل وبعض الميسورين لأنها نتاج لمؤسسات التنشئة الاجتماعية، وكذلك لمواريث ظاهرة موث السياسة، وهيمنة الثقافة التسلطية السياسية والدينية.

إن ضعف ثقافة العمل أسهمت في ظاهرة الكسل الجماعي والفردي والاتكالية والترهل، لتضخم الجهاز البيروقراطي غير الكفء أكثر من سبعة ملايين موظف غالبهم غير ملائم تعاملوا مع العمل والأجر وكأنه إعانة اجتماعية من الدولة لهم، وليس مقابل أداء العمل اليومي كماً ونوعاً. يعود ذلك إلى ضعف التكوين الاحترافي للموظفين العموميين في غالبيتهم الساحقة، وبعضه الآخر لشيوع ظواهر الرشوة والاختلاس للمال العام، والفساد الإداري في جميع أشكاله دونما ردع ومحاسبة وإعمال صارم لأحكام القانون.

من هنا شاع الانفصال بين العمل والأجر واعتبر الأخير بمثابة إعانة أو إعالة من الدولة للعمال والموظفين!

مفهوم العمل في بعض مكونات الثقافة المصرية لا يزال منفصلاً عن المعنى على نحو ما تعرفه المجتمعات الأكثر تطوراً في عالمنا، أو حتى في البلدان الآسيوية الناهضة حيث العمل قيمة محورية في الحياة.

Email