ما حقيقة عصر العولمة؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا أحد يشك في أننا نعيش «عصر العولمة». العالم كله، هكذا يقال، أصبح أشبه بالقرية الكبيرة الواحدة، حيث يعرف كل شخص ما يحدث للآخرين، بل بمجرد حدوثه، ويشترك الجميع في التأثر بما يحدث في أقصى أطراف العالم (أو القرية)، ولدى الجميع فرصة للتعبير عن عواطفهم أو آرائهم فيما يحدث.

هذا التطور نحو «العولمة» قديم بلا شك، بل لعل تاريخ العولمة هو تاريخ الحضارة الإنسانية نفسها، ما نحب منها وما نكره. فتبادل السلع والأفكار بين الأمم، صورة قديمة من صور العولمة، ولكن كذلك الاستعمار. تعمير القارة الأميركية بالعمالة الوافدة من بلاد أخر، أملاً في تحقيق مستوى أعلى من المعية، صورة من صور العولمة، ولكن قيام مجموعة من الأشخاص (يقال إنهم من بلاد آسيوية، بتفجير البرجين الشهيرين في نيويورك، في 11 سبتمبر2001، حيث راح ضحية ذلك آلاف من الأبرياء، هو أيضاً من قبيل العولمة (إذا صدقنا الرواية الرسمية)).

ولكن معدل العولمة ارتفع بشدة في الأربعين سنة الأخيرة، بما حفلت به هذه الفترة من ثورة الاتصالات والمعلومات، وانتشار نشاط الشركات متعددة الجنسية في مختلف أنحاء الأرض. وأنا أعتبر نفسى شاهداً جيداً على هذا الانتقال من عصر إلى عصر، إذ ما زلت أذكر كيف كان الحال في صباي وشبابي، فيما يتعلق بطريقة الانتقال من بلد لبلد، وبوسائل الاتصال بين شخصين يقيمان في دولتين مختلفتين مقارنة بما أصبح عليه الحال الآن.

كان سفري لإنجلترا لأول مرة في مطلع الخمسينيات بالباخرة التي استغرقت رحلتها عشرة أيام، من بورسعيد إلى لندن، ثم سافرت بعد ذلك بعشرين عاماً بالطائرة، ومعي ابني الذي لم يتجاوز عمره حينئذ شهرين، ولم ينقطع هو وإخوته، منذ ذلك الوقت عن السفر بالطائرة، حتى رأوا من البلاد ما زلت أطمع في رؤيته.

كان أخواي اللذان ذهبا إلى لندن للدراسة في أواخر الأربعينيات يرسلان إلينا خطابات بانتظام، وكانت هذه الخطابات هي الوسيلة الوحيدة المتاحة لنا لمعرفة أخبارهما، فلا أذكر قط أن دق جرس التليفون في بيتنا لنتلقى مكالمة من أيهما. كان الاتصال التليفوني بين مصر وإنجلترا في ذلك الوقت، ممكناً تكنولوجياً، ولكنه كان بالغ المشقة والتكلفة. لا عجب أن كانت لهفتنا على لقائهما، بهذه القوة، عندما عادا بالباخرة إلى مصر، وسافرنا بالقطار لاستقبالهما على رصيف الباخرة بالإسكندرية.

إن ما حدث من تطورات منذ ذلك الوقت له بالطبع جاذبيته وسحره، وهو قطعاً من سمات «العولمة»، ولكنى أتذكر من حين لآخر بعض الأشياء التي كانت تصلنا بالعالم الخارجي، في صباي وشبابي، ولم تعد موجودة الآن رغم العولمة، أو أصابها ضعف شديد.

مما جعلني أتساءل عن حقيقة «عصر العولمة» هذا، وعما إذا كان ما حدث هو في الحقيقة عولمة بعض الأشياء دون غيرها، وأن العالم قد أصبح «قرية كبيرة واحدة» في تقوية بعض الصلات ولكن على حساب صلات أخرى مهمة، أذكر في صباي ومطلع شبابي أشياء مدهشة لا أجد ما يقابلها الآن.

كانت الحياة الثقافية في البلاد العربية أكثر توحداً، الصلات فيما بين بلد عربي وآخر أشد قوة في هذا الميدان مما هي الآن. كنا نسمع ونعرف عن أدباء وشعراء سوريا ولبنان أكثر مما نعرف الآن، بل كنا نقرأ جدلاً ومناقشات مستفيضة بين أديب مصري، أديب سوري أو عراقي، وكانت المجلات الثقافية المصرية تصل إلى اليمن أو المغرب أكثر مما تصل الآن. هل يمكن أن نتصور أن الحياة الثقافية العربية قد أصبحت أكثر «محلية»، وتقوقعت كل دولة عربية وانكفأت على نفسها في عصر يفاخرنا به عصر العولمة؟

تذكرت شيئاً آخر مدهشاً. منذ قرن من الزمان (في 1914)، قام بعض المثقفين المصريين، الذين لم يكونوا قد تجاوزوا الثلاثين من العمر، بتكوين جمعية ثقافية أسموها: «لجنة التأليف والترجمة والنشر»، لتشجيع هذه الأنشطة الثلاثة بالضبط: التأليف والترجمة والنشر.

وقد ظلت هذه اللجنة طوال الأربعين سنة التالية تقوم بدعم تأليف الكتب العملية والأدبية والتاريخية، وتعهد إلى مترجمين عظام، يجيدون اللغة العربية كما يجيدون اللغات الأجنبية، بترجمة مؤلفات مهمة، أوروبية وأميركية، آسيوية، فعرفت عدة أجيال من المصريين بأعمال جوته الألماني، وبرنارد شو الأيرلندي، وهكسلي الإنجليزي، وأندريه جيد وأندريه موروا الفرنسيين، ومارك ثورين الأميركي، وتولستوي الروسي، وطاغور الهندي، أصدرت السلسلة الشهيرة التي كتبها هـ.ج.ويلز عن «معالم تاريخ الإنسانية» بلغة عربية رائعة، وترجمة لكتاب الداعية الإسلامي الهندي أبى الحسن الندوي: «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين» الخ.

لقد تربى وتثقف جيلي على قراءة مثل هذه الأعمال، في الوقت الذي كنا نتعلم فيه لغة عربية بالغة الرقى من قصص وروايات كامل الكيلاني، الذي حبب إلينا التراث العربي والإسلامي، وجعله يكتسب احترامنا، مثلما كانت الكتب الأخرى تكسبنا احترام الكتاب الكبار في مختلف أنحاء العالم.

لماذا يبدو إذن أننا، في عصر العولمة الرائع الذي نعيش فيه الآن، قد قلت معرفتنا بما يحدث في الحياة الثقافية في الخارج، هل تفسير ذلك هو أننا، وإن كنا نعيش في عصر العولمة، فإنه في الحقيقة عصر عولمة الاقتصاد، وعولمة تسوق السلع وسرعة نقلها عبر مسافات طويلة، دون أن تنتقل الثقافة بالسرعة نفسها، ربما لارتفاع وزنها؟ نعم، الأفكار والمعلومات تنتقل بسرعة أكبر بكثير من ذي قبل، ولكن أي أفكار وأي معلومات بالضبط، هل هي في الأساس الأفكار والمعلومات التي تسهل عمليات البيع والشراء وتسويق السلع؟ إذا كان الأمر كذلك فإن النفع الناتج عن العولمة لا يبدو واضحاً تماماً لي.

Email