فن التلاوة يشكل قوة الإيمان

ت + ت - الحجم الطبيعي

خط الثلث المصري، وأصوات المقرئين العظام المشايخ محمد رفعت، ومصطفى إسماعيل، والشعشاعي، والحصري، وعبدالباسط عبدالصمد، والمنشاوي، ومحمود علي البنا وآخرين، شكلوا دولة التلاوة وفنونها القرائية، وشكلوا ولايزالون قوة ناعمة وساحرة يملؤها الإيمان الشفيف وروح الفن والموسيقى الساحرة والغاوية للدخول في ظلال الرحابة الإيمانية، وذلك رغماً عن محاولات عدة لإحلال أصوات أخرى بقوة وسيطرة السياسة والمال والإعلام.

ما الذي يجمع بين أصوات السماء الصادحة وخط الثلث المصري وكبار الخطاطين، والتطور الموسيقي الشرقي، ونقله من الجمل والإيقاعات التركية ورتابتها، ومجافاتها لدينامية الحياة وتحولات الروح وتصاعدها وتوقها للأعلى والأعظم تبتلاً وتبجيلاً وتعظيماً وخضوعاً وتوحيداً لله الواحد الأحد؟ الجامع الموحد والمتعدد المنابع والمصادر الروحية والوجدانية والتعبيرية هو المواريث الحضارية المتراكمة وتعبيراتها وتحولاتها التي تضفي على تجارب الإيمان وطقوسه وجمالياته وأناشيده وترانيمه وقراءاته سماته مصرية العمق والروح والموسيقى والأصالة.

أنماط من الإيمان الديني المتناغم والمتواشج بين الحياة وتدافعاتها وتحدياتها واستجابات المصريين الاستثنائية في المواءمة بين محبة الله والخضوع له والتسبيح بحمده ونعمائه وبين الضمير الفردي، وعسر الحياة تحت ظلال الإيمان بالله الواحد الذي لا شريك له. طبقات روحية ودينية وطقوسية تمتد من بدايات تاريخنا وحتى اللحظة الراهنة، وستمتد بلا آماد أو حدود.

أنماط من التدين المتسامح تبدو غالبة رغماً عن أقنعة الحياة ومخاتلاتها وغوائلها التي واجهت المصري ولاتزال، ولا يملك سوى إيمانه بالله، في عمق أعماقه لأنه وارث تاريخاً مديداً من التجارب الإيمانية الفردية والجماعية، تداخلت في وعيه الفردي والجمعي وارتبطت بتراثات حضارية وثقافية استثنائية في غالب التاريخ الإنساني.

كانت مصر والمصريون ولا يزالون جزءاً لا يتجزأ من التطور الحضاري العالمي، ثم امتلكوا فوائض تاريخية من التجارب والإنجازات والروح الخلاقة، تضفي على حياتهم وتجاربهم القاسية، بعض البهجة وروح السخرية والحكمة ذات الجذور في قلب خبراتهم النادرة.

الإيمان المصري يحملُ في أعطافه البهجة وعشق الجمال وحب الحياة والبناء والتسامح والمغفرة والستر ورفض اليأس، والأمل الدائم والمستمر واللانهائي في رحمة الله ودعمه لهم.

من هنا يبدو غريباً على روح مصر والمصريين سعي بعضهم لاستيراد أنماط مغايرة من تعبيرات وسلوك الإيمان الذي يحاول إقامة خصومة وقطيعة بين مواريثهم الإيمانية وتراثهم الثقافي وسلوكهم، وذلك من أجل إشاعة نمط من التدين الاجتماعي الذي ارتبط ببيئات اجتماعية وثقافية مغايرة، تأسست على الغلو والتشدد وإقامة الحواجز والذكورية المفرطة في التمايز الإيماني والاجتماعي.. إلخ، حاول بعضهم من الغلاة أن يستوردوا أنماطاً إيمانية ودينية تجافي الإيمان المصري الفردي والجماعي، كي يقتلوا البسمة والبهجة والروح الساخرة – ونكاتها- التي ابتدعها المصريون ليواجهوا غوائل الزمن ومصاعبه.

حاولوا ولايزالون ستر الوجوه وراء أقنعة من الصرامة والقسوة وعنف الملامح والقسمات والتعبيرات.. إيمان حاولوا أن يكون قاسياً، ولغة وتعبيرات لغوية كانت جزءاً من عوالم وأنماط تفكير غادرتها روحها وأزمنتها، حاولوا فرضها فرضاً على حركية وحياة الفكر واللغة الحية. من هنا يبدو هذا المشروع لقولبة الإيمان المتسامح، متصادماً مع ثقافة الإيمان المصري المعتدل.

إن استيراد النمط الإيماني المتشدد، كان جزءاً من سياسة دينية خارجية تهدف إلى إعادة تشكيل توجهات وقيم التدين المصري الإسلامي، لتغدو معتمدة على مرجعيات أصولية، وما تفرع عنها من أصوليات سياسية دينية «متطرفة»، ومن ثم تهميش دور الأزهر وعلمائه كمرجعية سنية مركزية في عالم الإسلامي السني الأكثري، ومنفتح بالحوار والتعايش مع عالم الإسلام الشيعي الإثني عشري على نحو ما قام به وأسس له مولانا الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت والشيخ القمي، ود. محمد عبدالله دراز العالم الجليل وسواهم من كبار الإصلاحيين.

تمددت هذه السياسة الدينية المتشددة، من خلال المراكز الدينية المنتشرة في العديد من بلدان العالم الإسلامي، مع تقديم المنح الدراسية للطلاب، وذلك لنشر نمط من أيديولوجيا مذهبية محددة، وهو ما ساهم ضمن عديد الأسباب، في محاولة تطويق دور الأزهر في العالم. من ناحية أخرى، ربط بعض علماء الأزهر بهذه السياسة من خلال نظام الإعارة والعمل.

كانت هجرة أعداد كبيرة بحثاً عن فرص العمل والرزق أحد عوامل إعادة تشكيل نمط التدين المتسامح، وذلك من خلال تكيفهم مع مجتمعات تختلف نسبياً عن بعض مكونات ثقافة التدين المصري الشعبي وما ألفوه في حياتهم الروحية، ومن ثم عادوا ومعهم بعض ثقافة التدين السائدة هناك، ومعهم بعض رجال الدين المتشددين الذين تعلموا هناك على أيدي مشايخ غلاة.

ثمة سعي من بعضهم لتحويل وظيفة رجل الدين المتشدد إلى سلطة تحتكر النطق باسم الإيمان والعقيدة والسلوك والحلال والحرام والصواب والخطأ والحسن والقبيح.. إلخ، على نحو ما تعرفه بعض الديانات السماوية الأخرى، وهو ما يخالف جوهر الإيمان الإسلامي.

إن خطورة هذه التوجهات أنها تحول الديانة الإسلامية العظيمة إلى إيديولوجيا سياسية شمولية تسعى إلى السلطة السياسية والمصالح الاقتصادية والاجتماعية لصالح بعض المشايخ أو الجماعات السياسية والإيديولوجية التي تريد أن تؤمم حريات الناس وإيمانهم لصالحهما، والأخطر إعادة تشكيل هذا الإيمان على هواها الأيديولوجي والسلطوي ومصالحها. وفي سبيل ذلك تسوغ للعنف الديني، والخطابي واللغوي وتجميد الفكر والخطاب الديني وإعادة إنتاج اللغة القديمة، وتنميط الإيمان والحياة معاً، على نحو ما ثبت تاريخياً فشله كمشروع، وإيديولوجيا.

 

Email