اليوم الأخير

ت + ت - الحجم الطبيعي

مرّت أيام هذا الفصل الدراسي منسابةً، صامتةً، وكنت بين يوم وآخر أتساءل بيني وبين نفسي ألا تشعرين بشيء؟ ألا حزنٌ؟ ألا ندمٌ؟ ألا حنين؟ أبحث في أغوار النفس، في عمق القلب، ولا أجد شيئاً. والغريب أنّ هذا السكون كان يخيفني، ويقلقني، أيعقل أن تمضي أيامك الأخيرة في الجامعة من دون أن تحرّك فيك شيئاً؟ ثم أقول: أليس هذا أفضل؟ أسهل؟ أيسر؟ ليكن خروجاً كالغياب، وداعاً كالرحيل.

وها هو اليوم الأخير يقبل عليّ صيفيّاً قائظاً، تلتهب فيه الأرض والسماء، والهواء يضرب وجهي ساخناً قاسياً. ماذا؟ ماذا تقول لي أيها النهار الأخير؟ ماذا تحكي؟ ماذا تكتب على صفحات العمر الذي سيمضي بعيداً عن هذا المكان - الوطن؟

ويشاء القدر أن يكون آخر امتحان لي في الجامعة في مادة النحو، وأراني أؤجل وضع الامتحان، وأردد بيني وبين نفسي: عليّ أن أضع امتحان النحو، الوقت ضيق، لكني لا أفعل، حتى صباح اليوم، الامتحان بعد ساعات، وها أنا أمام شاشة جهازي أحاول أن أضع أسئلة الامتحان.

فماذا حدث؟ كيف لامتحان أن يفجّر في داخلي كلّ هذا البكاء؟ كيف تتحول شاشة هذا الجهاز إلى شاشة للذكريات، ولسنوات العمل التي مضت، وللقلب الذي كبر، وللعقل الذي تعلّم، وللأيام التي احتضنتني، وأخذت بيدي وسارت بي ومعي؟

هل هناك من هو مثلي؟ من يرى في مكان عمله وطناً؟ وفي وظيفته حياة؟ ما عرفت مذ خرجت من المدرسة مكاناً غيرها، أتذكرني وأنا طالبة في سنتي الجامعية الأولى تأكل الحيْرة فؤادي، أبحث عن تخصص آخر غير علم الفيزياء الذي درسته فصلين متتاليين، ثم عرفت يقيناً أنّه ليس الغيمة التي سأستظل بها بقية عمري، حائرة أمشي في ممرات الجامعة، وأسأل، صغيرة، ضائقة، يغرس القلق أظفاره في فؤادي، أكانت هي من أمسك بيدي وأدخلني إلى قاعة باردة، لا يزيد عدد طالباتها على أصابع اليد الواحدة، وفيها أستاذ يتحدث عن الفعل الذي يحتاج إلى فاعل، فإذا بني للمجهول ناب عن الفاعل نائب؟ أكانت العربية التي أجلستني في ذاك المقعد المتطرف البعيد؟ أكانت هي التي همست في أذني: هنا مكانك؟

يا الله! كم أحببت العربية! كم عشقت حروفها! وكم غرقت هياماً في علومها! النحو الذي ينفر منه الجميع كان جنّتي، والشعر والأدب، والكلمات، آه من الكلمات التي كنت أقطفها كلّ لحظة وأدسّها في قلبي وروداً، وفي عقلي معاني تتوالد بلا نهاية؟ هل هناك من هو مثلي؟ يعشق ما يدرسه ويهيم به هياماً أقرب إلى الجنون؟

تتجلى الآن أمام ناظريّ قاعات الدرس، والمدرّجات، والمسرح القديم، والمكتبة، المكتبة التي أذهب إليها بحثاً عن كتاب لإنجاز تقرير أو إنهاء تكليف، فأقف أمام رفوفها، فأجد كتاباً غير ذاك الذي أبتغي فأفتحه، فيخطفني، أجلس على الأرض، أقرأ، وصوت بداخلي يقول ليس لديك وقت لهذا، خذي ما جئت من أجله وأنجزي ما عليك، ولكن الوقت يمضي، وأنا من كتاب إلى كتاب، وحين أعود إلى مسكني تكون أطراف أصابعي قد اسودّت لما علق عليها من غبار الكتب.

أتذكر سفري وعودتي أستاذة للنحو والصرف، وتجربة التدريس الأولى، ثم الفصول والسنوات تمضي، والقلب لا يعرف له سكناً إلا أروقة الجامعة، وناسها وأهلها، وأتذكر طالباتي؛ الوجوه تتوالى أمام ناظريّ، عيونهنّ المعلقة بي، وابتساماتهنّ، الصباحات التي تنقضي في القاعات والمكتب، تمتلئ بضجيجهنّ، والمساءات التي تنقضي هناك بين نادي الإبداع والمسرح القديم، والتي تمتلئ بالضحكات والحكايات، والعمل النقيّ الجميل البديع، من أجل العربية وأسابيعها، أسبوعاً في السنة، وسنة وراء سنة، وجوه تختفي، وأخرى تجيء، ومازلت أدخل في بداية كلّ فصل إلى القاعات، وأنظر في عيون الطالبات وأبتسم، وتبدأ الرحلة، رحلة تشقّ في القلب درباً وتزرع على ضفتيه شجراً وأزهاراً.

 أسعد ما أكون وأنا في ذاك المكان الصغير، القاعة الصغيرة، مع طالباتي، والعلم الذي أعلّمهن. وأعرف أنّي قد علّمت بقلبي وعقلي وروحي وكلّ ما فيّ، نعم أعلم، وهم يعلمون.

والآن يا جامعة الإمارات! يا وطناً داخل الوطن! يا محلّ العمر الجميل! لا أكتب ما أكتبه ندماً، ولكنّي أكتبه امتناناً وشكراً، أكتبه عنك ولك، وأسجّل في هذه الحروف الفقيرة المتواضعة حبّي وفخري، وأدسّ بين ثناياها عمري وجهدي وتعبي وسهري.

وألملم بها شتات مشاعري، وأضمّ فيها قلوباً أحببتها وأحبتني، أساتذة وزملاء، طلاباً وطالبات. وها هو صرير البوابة يعلن وأنا أدفعها للخروج من حرمك أنّ هذا هو يومي الأخير. فوداعاً، وألف شكر.

 

Email