إفطار رمضان لأصحاب المهن الشاقة

ت + ت - الحجم الطبيعي

قرأت خبراً في الصحافة عن أن دار الإفتاء المصرية قد أقرت بجواز الإفطار فى شهر رمضان لأصحاب المهن الشاقة، كالزراع والحمالين والبنائين، والذين يبذلون مجهوداً شاقاً، خصوصاً إذا جاء شهر رمضان في فصل الصيف، وأن يكون هذا العمل هو مصدر رزقهم الوحيد.

وأعتقد أن هذا الموقف يعتبر منعطفاً مهماً في التفسير الديني، حيث يمثل تطوراً كبيراً وموقفاً تقدمياً من علم أصول الفقه، فقد جاء الفقهاء في القرنين الأول والثاني الهجري لتفسير وشرح أحكام الشريعة، وذلك من خلال مدارس متعددة أشهرها في منطقتنا مذاهب مالك بن أنس، وأبو حنيفة، والشافعي وابن حنبل.

وفي أواخر القرن الثاني الهجري، وضع الإمام الشافعي مبادئ أصول الفقه، وهي ليست مجرد شرح للأحكام الشرعية، بقدر ما هي وضع للمبادئ والأسس التي تبين فهم وتفسير أحكام الشرع. فعلم أصول الفقه هو ما يمكن أن نطلق عليه علم فلسفة القانون الإسلامي ومبادئه الرئيسية. فهذا العلم يتناول الكليات والمبادئ الرئيسية، في حين أن الشريعة الإسلامية تتعرض للأحكام الشرعية التفصيلية في مختلف الجوانب.

فأصول الفقه هو بذلك أقرب للمبادئ العامة، في حين أن الشريعة تتعرض لمختلف الحالات الفردية والتفصيلية. فالعلاقة بين الأمرين أقرب إلى العلاقة بين الدستور والقانون العادي، الأول يوضح الخطوط والمبادئ العامة، والثاني يتعامل مع مختلف الجوانب التفصيلية لكل حال.

وأذكر أننا درسنا في كلية الحقوق، إلى جانب أحكام الشريعة الإسلامية، مادة أصول الفقه على كتاب المرحوم الشيخ عبد الوهاب خلاف، وهو إحدى قامات الفكر الإسلامي في مبادئ وفلسفة الشريعة الإسلامية.

وهكذا نجد أننا بصدد فرعين أساسيين: أحكام الشريعة الإسلامية وأصول الفقه. فأما الشريعة فإنها تبين مختلف القواعد لنواحي الحياة المختلفة بكافة تفصيلاتها سواء في العبادات أو المعاملات. وأما أصول الفقه، فهو العلم الذي يتناول الكليات وهو يبين فلسفة الأحكام الشرعية.

فأصول الفقه يتناول الكليات، وهو يضع المبادئ العامة التي تفسر على أساسها الأحكام الشرعية التفصيلية. فأصول الفقه هو علم الكليات في حين أن أحكام الشريعة تتعرض لمختلف التفاصيل في المجالات المتعددة لنشاط البشر.

وكان أحد أهم مبادئ أصول الفقه فى التفسير، هو أن الأحكام ترتبط بعللها وليس بحكمتها. فما هو المقصود بالعلة، وما هو المقصود بالحكمة من الأحكام؟

أما العلة، وفقاً لمبادئ أصول الفقه كما استقرت، فهي الأمر الظاهر المنضبط، وهو يرتبط بالحكم الشرعي. وأما الحكمة من الحكم الشرعي، فهي الهدف النهائي والبعيد والذي يكون مقصوداً من هذا الحكم الشرعي، ولكنه ليس دائماً معلوماً أو واضحاً. وقد استقر علماء الإسلام على التمييز حول إباحة الإفطار في شهر رمضان، حيث تقضي الآية الكريمة بأن «من كان مريضاً أو على سفر، فعدة من أيام أخر».

فأين العلة هنا، وأين الحكمة. فأما العلة لإباحة الإفطار فإنها بصريح عبارة الآية هي السفر والمرض، ولكن ما هي الحكمة النهائية من وراء هذه الرخصة؟ النص صريح وواضح في حالتي المرض والسفر بصريح نص الآية القرآنية، ولذلك يصدق عليها وصف العلة، لأن الأمر هنا واضح ومحدد.

ولكن ما هي الحكمة. هل رفع المشقة، أو اعتبارات أخرى مثل اليقظة في السفر من مخاطر المجهول، أو غير ذلك؟ فالأمر قد يتطلب درجة عالية من اليقظة مثل قيام الجراح بإجراء عملية جراحية خطيرة لمريض، أو أداء امتحان لطالب في لحظة حاسمة من حياته المستقبلة، أو قيامه برقابة أجهزة معرضة للمخاطر.. ويمكن أن تتعدد المبررات والأسباب.

ولا ننسى أن علم أصول الفقه قد بدأ مع الإمام الشافعي بعد أكثر من قرنين من ظهور الإسلام، ومع ما عرفته المجتمعات الإسلامية من تداخل من أقوام وفئات متعددة لها أفكارها وتقاليدها والتي قد تتعارض مع المبادئ الإسلامية. ومن هنا جاء علم أصول الفقه لوضع الضوابط لحماية أحكام الشريعة من الانفلات، وذلك بربط الأحكام بالعلّة الظاهرة والمنضبطة في النص..

وليس بالحكمة التي قد تختفي على العامة أو قد يساء استخدامها. فهذا الموقف المتشدد من قواعد حول الفقه، بالاعتماد على العلة وليس الحكمة قصد به حماية الدين من خطر التساهل أو التنازل. فموقف علم أصول الفقه في ربط الأحكام بالعلة وليس بالحكمة، هو محاولة لتجنب التساهل أو التسيب. فهو يمثل موقفاً دفاعياً يريد أن يحمي الشريعة من مخاوف التهاون أو التراخي.

 

Email