الحالة الثقافية في واقع إقليمي متغير

ت + ت - الحجم الطبيعي

الأوضاع الثقافية فى العالم العربى، تبدو فى حالة يشيع فيها بعض الركود، وضعف الحيوية الإبداعية، مع ظهور منافسات صاخبة بين عديد الدول العربية حول حيازة معاير القوة الناعمة ومكوناتها، والسعي لأن تكون جزءاً من أدواتها فى بناء المكانة الإقليمية.

إن تراجع دور مصر الثقافي الإقليمي، وبروز مراكز ثقافية أخرى يبدو كنتاج للتطور التاريخي والسياسي للسياسة الثقافية وعلاقة السلطة والمؤسسات الثقافية، الرسمية بالمثقفين والمبدعين والإنتاج الرسمي، وإغفالهم للمكونات والمنابع الثقافية المتعددة التي ترفد الثقافة المصرية الجامعة بالحيوية والدينامية لصالح هيمنة المركز حول العاصمة..

بالإضافة إلى ترييف المدن وثقافاتها وانكسار انفتاحها حول العالم المتعدد المراكز الثقافية. أن البحث في الحالة الثقافية المصرية الرسمية المأزومة، وتعدد المراكز الثقافية العربية وأدوارها يقتضي إطلالة سريعة على تطور المثال المصري فيما يلي:

1- كانت الثقافة العربية منذ نهاية القرن التاسع عشر، وهجرات المثقفين الشوام هروباً من الاضطهاد العثماني، جعلت من القاهرة وبعض المدن المصرية كالإسكندرية- والمنصورة وطنطا- ملاذاً آمناً، والأهم مراكز للتفاعل الثقافي بين الثقافة المصرية..

وثقافة المشرق العربي. في هذا الإطار ظهرت الفكرة المصرية القومية الجامعة، تعبيراً عن تطور الحركة القومية الدستورية المصرية المعادية للاستعمار الغربى وفى ذات الوقت ظهرت فكرتا القومية العربية والثقافة العربية الواحدة كأساس للوحدة العربية حول اللغة، وإلى جوارها الفكرة الإسلامية الجامعة. كان الزمن، هو زمن الأفكار والموحدات الثقافية الجامعة.

تحولت القاهرة إلى مركز الإبداعات والترجمات والسينما والفنون التشكيلية والمسرح والموسيقى والغناء، وأصوات المقرئين الكبار للنص القرآني المقدس، والمداحين.. الخ. من ثم تأثرت الحيوات الثقافية العربية لاسيما فى المشرق بالإنتاج الثقافي والإبداعي المصري، وبمؤلفات الكتاب والباحثين المصريين. 2- مع ثورة يوليو 1952 عاشت الثقافة المصرية والعربية على فوائض المرحلة شبه الليبرالية والمجتمع شبه المفتوح...

وأخذت الفكرة العربية الجامعة نفساً وروحاً جديدة مع المشروع الناصري، لاسيما فى ظل مورد يساري وانفتاح على الكتلة السوفيتية وآدابها، وتجلى ذلك فى بعض التجارب الطليعية فى المسرح، وإيلاء الاهتمام بالفنون الشعبية والفلكوريات، وتم إنشاء أكاديمية للفنون ودور نشر حكومية تتولى نشر الكتب والترجمات فى عديد المجالات وبيعها بأثمان محدودة تتناسب مع مستويات معيشة المثقفين والقراء.

3- كانت القاهرة تنتج، وبيروت تنشر وبغداد تقرأ، وهذه المقولة باتت تعبيراً عن قدرة دور النشر البيروتية على نشر بعض الكتابات الجديدة، أو الممنوعة من النشر.

4- فى أعقاب حرب أكتوبر 1973، وصعود سلطة البترو دولار فى الإقليم، واضطراب الأوضاع والتحولات المصرية من المشروع العام والاشتراكية العربية، إلى تغير تدريجي وتحول فى سياسات مصر الإقليمية والدولية من الاتحاد السوفيتي إلى الولايات المتحدة، ومن المحور التقليدي مصر/ سوريا إلى مصر/ السعودية، وبقية دول الخليج العربي. ترتبت على سيادة سياسة الانفتاح عديد من التوجهات التي أثرت على الثقافة يمكن رصد بعضها فيما يلي:

أ- بدء موجات الهجرة المصرية إلى منطقة الخليج العربي سعيا وراء الأرزاق فى مجتمعات أكثر محافظة فى القيم، وأنماط التدين.

ب- مع الخلاف الضاري بين الرئيس الأسبق أنور السادات، وبين المثقفين – منذ بيان المثقفين الشهير قبل الحرب- وإعادة صياغة خريطة تحالفاته مع الإسلاميين (الإخوان المسلمين وبعض القوى السلطوية الجديدة/ القديمة الداعمة له)، هاجر بعض المثقفين والمبدعين إلى العراق ولبنان وسوريا وليبيا، وبعض الأكاديميين إلى الكويت.

بدأت منذ نهاية السبعينيات وأوائل الثمانينيات هجرة أخرى نحو لندن وباريس حيث نشأت صحف ومجلات عربية ممولة من دول النفط السعودية والعراق ودول الخليج وليبيا، وهاجر بعض المثقفين للعمل بها، ثم تزايدت الهجرات المصرية لاسيما المثقفين والصحفيين إلى هذه البلدان للعمل والإقامة المؤقتة بها.

ثمة ظاهرة أخرى تمثلت فى قيام بعض الدول العربية النفطية بنقل بعض الكوادر التي أسست للهياكل الثقافية المصرية واستقلال إصداراتها من داخل هذه الدول كي تلعب دوراً مؤثراً فى الثقافة العربية كالكويت قبل الغزو والعراق واحتلالها.

د- مع تصاعد القوة المالية ثم السياسية لدول الخليج العربي انقلبت مراكز التأثير من الحواضر العربية التقليدية إلى المراكز النفطية، لاسيما منذ عقد التسعينيات، وفى العشرية الأولى من الألفية الجديدة، وأصبح التنافس على مواقع القوة الناعمة من خلال استعارة بعض مؤشرات المكانة الإقليمية (عدد المؤتمرات السياسية، والثقافية، عدد الجرائد، معارض الكتب، ومهرجانات السينما والمسرح، وعدد الجوائز الثقافية).

هـ- أدت الحروب فى المنطقة (غزو العراق واضطراب الأوضاع فى سوريا، وانهيار الدولة فى ليبيا) والتمددات فى الأدوار الإقليمية الإيرانية والتركية، إلى أزمات في إطار نموذج الدولة ما دون القومية فى غالبية دول الإقليم وأزمة الدولة الحديثة في مصر، ودولة المخزن المغرب.

و- بروز أزمة كبرى فى صيغة سايكس بيكو، ومن ثم ظهور السيولة، والاضطراب، وعدم اليقين، وعدم قدرة الدولة على السيطرة على أراضيها وكامل ترابها الوطني.

7- ظهور الصراعات المذهبية، وتفكك فى أبنية التكامل الوطني داخل عديد من دول الإقليم، وأثر ذلك على انكسار بعض الموحدات الوطنية ومعها انفجار الهويات المكونة للهويات الجامعة (الدينية والمذهبية واللغوية والمناطقية والعرقية) ومعها تذرى ثقافة المكونات الأولية لهذه المجتمعات، وبروز تعبيرات سياسية عن هذه المجموعات.

8- بروز الفواعل الإقليمية ما دون الدولة ومعها ثقافتها الدينية والمذهبية من مثيل حزب الله، وأنصار الله، والنصرة وداعش، بالإضافة إلى الثقافة القبلية حول بعض القبائل فى ليبيا واليمن.

9- انفصال بعض الدول العربية إلى دولتين كالسودان – شمال وجنوب- والتفكك بين ثقافة الوسط النيلى العربية الإسلامية، الأفريقية وبين ثقافات عرب السودان إقليم دارفور والإسلام الأفريقي، وثقافة قبائل البجا فى شرق السودان.

10- استقطاب بعض المراكز الثقافية الجديدة عبر الجوائز والمعارض والمهرجانات والترجمة والنشر- لعديد من المثقفين والمبدعين العرب للحصول على هذه الجوائز.

 

Email