عن الاغتراب قديماً وحديثا

ت + ت - الحجم الطبيعي

ليس من السهل تعريف «الاغتراب»، وإن لم يكن من الصعب التعرف إليه وتقديم أمثلة له. في اللغة العربية توحى كلمة «الاغتراب» بمعنى مختلف عما توحى به كلمة «الغربة». فالمقصود بالغربة عادة، ما قد يشعر به المرء وهو خارج بلده ووطنه، أما الاغتراب فيشير عادة إلى شعور المرء بأنه غريب دون أن يغادر وطنه وأهله.

الشعور بالاغتراب إذن ليس مما يحبه المرء أو يتمناه. إذ من الذي يحب أن يشعر بأنه غريب وهو وسط أهله؟ ولكن من المؤكد أيضاً أن احتمال الشعور بالاغتراب يزيد بتطور الحضارة، ونمو الدين، وتقدم الصناعة على حساب الزراعة، وحلول الآلة محل العمل الإنساني، وكذلك بحلول نظام دكتاتوري محل لديمقراطية.

في القرن التاسع عشر كان من أشهر من تكلم عن ظاهرة الاغتراب هو كارل ماركس، وكانت أهم صور الاغتراب في نظره، ما يشعر به العامل الصناعي الخاضع للاستغلال من جانب رب العمل. فلنتصور عاملاً يعيش في المدينة، ولكنه حديث العهد بترك قريته، ومضطر من أجل كسب قوته وقوت عياله إلى الاشتغال في مصنع ساعات طوالا كل يوم.

لا يتحدد الوقت الذي يبدأ فيه عمل أو ينتهى بإرادته هو، بل بإرادة شخص غيره، كما أن طبيعة السلعة التي يشترك في إنتاجها مفروضة عليه من رب العمل. طريقة الإنتاج ميكانيكية رتيبة لا يمارس فيها العامل أي مهارة أو موهبة، ولا يختلف ما يقوم به عما يمكن للآلة نفسها أن تؤديه.

وقت الفراغ الذي يترك له بعد الانتهاء من عمله قصير للغاية، لا يكاد يكفي لأكثر من النوم. والسلعة التي تنتج في النهاية لا يظفر العامل إلا بجزء صغير من قيمتها، إذ يستأثر رب العمل بالجزء الأكبر منها، وهو ما سماه ماركس« فائض القيمة»، ويعجز العامل في معظم الأحوال، حتى عن شراء ما يمكن أن يحتاجه هو من هذه السلعة التي قام بإنتاجها، كأمتار من النسيج الذي يحتاجه لملابسه وملابس أسرته، أو كمية من الفحم للتدفئة.

في بداية القرن العشرين لم يكن من المتوقع أن تنتهى ظاهرة الاغتراب، ولكن كان لابد أن يطرأ بعض التغير على أهم صورها. لم يتحسن حال العامل الصناعة كثيراً عما كان في منتصف القرن السابق، رغم ما أحرزته نقابات العمال من مكاسب في صورة زيادة الأجور وتخفيض ساعات العمل. بل زادت محنة العامل الصناعي ما أدى إليه استخدام«خط التجميع» في بداية القرن العشرين..

إذ أصبح على العامل التحرك بما يلائم حركة الآلة، وإلا تعطل الإنتاج، فإذا بالعامل يجبر على التخلي عن جزء من آدميته، مما صوره تصويراً بديعاً فيلم شارلى شابلن الشهير «الأزمنة الحديثة» في 1936.

مر الآن ثلثا قرن على نشر رواية أورويل، وأكثر من ثمانين عاماً على نشر رواية هكسلي، حدثت خلاله أشياء كثيرة كان لابد أن تغير من صورة الاغتراب الذي يعاني منه الإنسان في العصر الحديث تغيير جوهرياً، بالمقارنة بما كانت عليه في منتصف القرن العشرين..

وكذلك بالطبع بما كانت عليه في منتصف القرن التاسع عشر. هناك أولاً ما حدث من تطور في وسائل الإعلام، ما جعل الوسائل التي كان يستخدمها هتلر أو موسوليني أو ستالين لغسيل المخ، تبدو لنا الآن بدائية للغاية وبالغة السذاجة.

لم يستخدم أي من هؤلاء الزعماء الثلاثة جهاز التلفزيون، ونحن نعرف الآن دور التلفزيون في الترويج لعكس الحقيقة، مع إتقان اللعب بعواطف الناس وأفكارهم، بالصورة والكلام والموسيقى، حتى أصبح التعرض لكثير مما يعرضه التلفزيون في البلاد الدكتاتورية يترك المرء شاعراً بنوع من المرارة مصدرها الشعور بالاغتراب.

كذلك لم يعرف النصف الأول من القرن العشرين، ولا بالطبع القرن السابق عليه، هذه الظاهرة التي نعرفها الآن جيداً ونسميها «المجتمع الاستهلاكي». ظاهرة المجتمع الاستهلاكي تولد نوعاً من الشعور بالاغتراب، ليس فقط لدى الشخص العاجز عن الحصول على ما يصادفه يومياً من محاولات لحفزه على اقتناء ما لا يستطيع اقتناءه..

بل أيضاً لدى المثقف الذي لا يستطيع التجاوب مع هذه الدعوة المستمرة إلى الاستحواذ، إذ يجد نفسه في مهرجان عظيم تشترك فيه الآلاف المؤلفة من الناس، باستعراض آخر ما اقتنوه، وما حققوه من مكاسب مادية، دون أن يجد في نفسه الرغبة في مشاركتهم هذا الاحتفال.

كان عامل الصناعة في عصر ماركس يشعر بالاغتراب في مجتمع يحرمه من إشباع كثير من حاجاته المادية والنفسية، ومع تطور أدوات الإنتاج أجبر على أن يكيف حركاته ومشاعره بما يتلاءم مع حركة الآلة ومتطلباتها.

ولكن ها قد حل مجتمع الخدمات محل المجتمع الصناعي، وزاد وقت الفراغ المتاح للجميع؟، فإذا بالعامل أو الموظف يعاني من نوع من الاغتراب؛ لم يعد عبداً مطيعاً لمتطلبات الآلة، ولكنه أصبح عبداً مطيعاً لمتطلبات المجتمع الاستهلاكي.

 

Email