رؤى إرشادية لسياسة إصلاحية

ت + ت - الحجم الطبيعي

حديث الساعة هو مشاكل الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب في مصر، والأدوار الخطيرة التي يلعبها بعضهم في إشاعة الاضطراب والفوضى والعنف اللفظي والخطابي، والتداخل بين الإعلام الخاص، وبعض رجال الأعمال، واستخدامه في ممارسة الضغوط السياسية على السلطة الحاكمة، والأخطر في تراجع مستويات المهنية والقواعد الأخلاقية والقيمية التي تؤطر الممارسة الإعلامية. وأخطر ما في هذه الممارسة هو تنشيط بعض أشكال العنف اللفظي، والديني والمذهبي سعياً وراء الرواج واستقطاب الإعلانات.

منذ أكثر من عشر سنوات حاولنا وضع مقترحات عملية لتطوير السياسة الإعلامية وأدائها في مواجهة العنف، وذلك في مؤلفنا سياسات الأديان ولا يزال بعضها صالحاً لهذه اللحظة.

كيف يمكننا أن نصوغ رؤى إرشادية عملية، لصناعة سياسة إصلاحية عملية، في المؤسسة الإعلامية، ترمي إلى المساهمة الوقائية في تخفيف منابع العنف، واحتوائه، وتطويق آثاره؟ في هذا الصدد أود أن أوضح ما يلي:

1- إن إمكانية منع العنف أو تصفية منابعه يبدو وهماً، لأنه جزء من تركيبة الاجتماع الإنساني ــ أيا كانت مرحلة تطوره- لأنه ينتج عبر صراعات وتنافسات الثروة والسلطة والرموز والمعتقدات والأطراف واللغات.. الخ، بين قوى وفئات اجتماعية مختلفة.

2- ان أهمية أي تصور وسياسة لمواجهة العنف ولاسيما ذا الوجوه الدينية والطائفية يتمثل في ضرورة الحد من مصادر إنتاجه وأسباب اندلاعه، والقدرة على التعامل معه أثناء اشتغاله، عبر عمليات منظمة لاحتوائه، والحد من آثاره السلبية على الاندماج القومي، وأرواح المصريين وغيرهم داخل مصر، وأموالهم، ونفسياتهم ورموزهم.. الخ.

انطلاقا من الاعتبارات السابقة نطرح الأفكار التالية:

المؤسسة الإعلامية ومواجهة العنف

لا يخفى بداءة أن ثمة تداخلاً وتكاملاً بين السياسات الإصلاحية وإدارة المؤسسات المختلفة التعليمية والإعلامية والدينية والسياسية، إن تحفيز العقل الناقد، يعتمد أيضاً على سياسة تعليمية تنتج هذا العقل في مراحل التعليم المختلفة، ومن ثم يعد العقل المقموع والقمعي تعبيراً عن سياسات في التنشئة الاجتماعية والسياسية تسيد هذا النمط القمعي. من هنا قصارى ما نطلبه ونرمي إليه هو تحفيز النزعة نحو تكوين العقل الناقد من قبل المؤسسة الإعلامية، إن هذا الهدف صعب المنال في ظل الظروف السائدة منذ عقود عديدة حيث السلفية سنة فكرية، والولع بكل ما هو قديم لأنه ذاك، يبدو سمت تفكير وسلوك كثيرين في مصر في هذا الإطار نحن إزاء مهمة بالغة العسر والصعوبة معا في إطار هذه الصعوبات كيف يمكن التعامل معها؟.

التعامل مع تعقيدات الوضع الإعلامي بمكوناته ومشكلاته يعتمد على النزعة التدرّجية، وفي هذا الإطار لابد من أن يكون محور الحركة هو الإعلاميين والفنيين أساساً، وفي هذا المضمار نقترح ما يلي:

1- برنامجاً- يتضمن ندوات وورش عمل وتدريب- يرمي إلى تجفيف منابع إنتاج العنف في أجهزة الإعلام، من خلال برامج لإعادة تأهيل الأجيال الجديدة من الصحافيين والإعلاميين حول القيم المهنية وأصول المهنة ومدارسها وتطورها عالمياً.

2- تخطيط سياسات تحريرية جديدة تدور حول العقلانية والمواطنة، والنزعة النقدية، والسلام الاجتماعي ومواجهة الخرافات.

3- تفعيل ميثاق الشرف الصحافي وتطوير بعض مكوناته في ضوء المتغيرات الجديدة. إن ذلك يبدو أمراً بالغ الأهمية، لأن الجوانب الخلقية والقيمية والمهنية أساسية في تطوير أي أداء مهني أو مؤسسي.

4- التدريب على برامج حول اللغة كنسق لإنتاج النزاعات الداخلية وعليها، وكأداة للوقاية. إن هذا الأمر من الأهمية بمكان وخاصة في ظل متابعة الكتابات والمعالجات اللغوية المولدة للعنف- ذي الطبيعة الدينية والطائفية- لأن اللغة كما يذهب هايدجر هي أخطر النعم، يسأل الفيلسوف المبرز كيف كانت اللغة «أخطر النعم»؟ يجيب إنها خطر الأخطار جميعا لأنها «هي» التي تبدأ بخلق «إمكانية» الخطر. والخطر هو الذي يحمله الموجود للموجود.

واللغة كما يذهب بعضهم متفجرات. إن استخدام بعض الأوصاف العنيفة أو السلبية أو الحاطّة بالكرامة، أو التي تميّز مواطنا عن آخر لأي سبب من دون سند موضوعي، يؤدي إلى توليد عنف رمزي ومعنوي.

في الإعلام المصري يمكن القول إننا إزاء ممارسات لغوية شائعة تفتقر إلى المهنية والموضوعية، وتحتاج إلى وقفة حازمة فما بالنا بما هو أخطر ألا وهو التوظيف العنيف للغة في التعبير الإعلامي. يمكن القول ان تدهور وعنف لغة الإعلام كانا عاملينا من عوامل السجالات والهجاءات العنيفة التي حجبت أي حوارات وجدالات جادة ورصينة في مصر على نحو ما شاهدنا لمدة أكثر من ثلاثة عقود ويزيد، وفي أعقاب الانتفاضة الثورية، وحتى اللحظة الراهنة، مع تدني مستويات الأداء والقيم المهنية.

5- إعداد برامج تدريبية حول حالة الأديان ومؤسساتها وظواهرها وخطاباتها في مصر، وخبراتنا في التكامل والاندماج القومي ومساراتها وتحولاتها ومشكلاتها خلال العقود الأخيرة من خلال رؤية نقدية.

6- برامج حول دولة القانون والمواطنة وتطوراتها النظرية المعاصرة.

7- تفعيل الدور الوقائي لنقابة الصحافيين، في رصد تجاوزات الصحف والصحافيين والكتاب في مجال الحض على العنف أو تبريره أو تسويفه بين الجمهور أيا كان هذا العنف ذا وجه ديني أو طائفي، أو رمزي أو جنائي.

8- تشجيع مؤسسات وجمعيات المجتمع المدني، والمواطنين على تنظيم حملات للكتابة للصحف للرد على كتابات ومعالجات بعض الكتاب والصحافيين ومقدمي البرامج التي تمس أصول العقائد، أو تروج لأفكار دينية غير صحيحة. وأنا هنا أستمد هذه الفكرة من تجربة بعض الجمعيات الطوعية الماليزية ضد بعض الكتابات التي تروج لانتهاكات وصور للمرأة تخالف صحيح الإسلام وأصوله وهي حملات مكثفة ويمكن تعبئة متدرجة بالمئات والآلاف ثم مئات الآلاف، والمليون رسالة رد.

9- برامج لمحرري الحوادث والأقسام القضائية في الصحف والتلفاز والإذاعة – ومعدي ومقدمي البرامج- تدور حول التنظيم القضائي والخصومة القضائية المدنية والخصومة القضائية الجنائية وأصولها وقواعدها الأساسية، لتلافي الأخطاء المهنية الجسيمة، التي ترتكب في التغطية الخبرية، والتحقيقات والحوارات، والمقابلات مع مصادر قضائية وأمنية، والتي ترتكب تزيينا للعنف السياسي أو الجنائي، أو تحقيراً من شأن أبرياء لم تثبت إدانتهم بعد، وفق القاعدة الدستورية الراسخة المتهم بريء حتى تثبت إدانته، وقرينة البراءة إلى أن يثبت عكسها في محاكمة قانونية عادلة وعادية.

ويتضمن البرنامج أصول وقواعد النشر بخصوص الجرائم السياسية والتي يصاحبها عنف ذو وجه ديني أو طائفي حتى لا تؤدي التغطية الصحافية إلى إنتاج مزيد من الانقسامات المجتمعية وتغذيتها.

Email