فرنسا وآفاق صعودها دولياً

ت + ت - الحجم الطبيعي

يأتي الاهتمام المتميز الذي يبديه الرئيس الفرنسي فرانسوا أولوند بشؤون الشرق الأوسط استكمالاً لدور سلفه ساركوزي وإضافة إليه، الاشتراكيون والديغوليون لا يفترقون في هذا التوجه الاستراتيجي. ففي عهد الرئيس ساركوزي فُتحت صفحة جديدة في العلاقات الفرنسية ـ الخليجية، وبدأت تحولات مهمة في المواقف الفرنسية إزاء القضايا العربية إحياء للنهج الذي اختطه الجنرال شارل ديغول والذي يمكن تلخيصه بالتقليص من مساحات التبعية في السياسات الخارجية للولايات المتحدة وإعادة إبراز الهوية الفرنسية على المستوى الدولي.

فرنسا الآن القوة الثانية في حلف الناتو، وهي أقوى دولة تطل على حوض البحر الأبيض المتوسط وتمتلك ثاني أكبر اقتصاد في أوروبا وتتزعم المجموعة الفرانكوفونية لذلك ترى نفسها مؤهلة لأدوار سياسية على المستوى العالمي تتجاوز مجرد كونها عضواً في الاتحاد الأوروبي وعضواً في حلف الناتو.

شهدنا في السنوات الأخيرة فرنسا النشطة في مساندتها الفعالة لحركات الربيع العربي، وشهدناها نشطة جداً في مكافحة الإرهاب في أكثر من قارة، ونشهد الآن كثافة اشتراكها في الحرب على تنظيم داعش وقصفها لمواقعه في العراق من أكثر من قاعدة بضمنها حاملة الطائرات شارل ديغول التي حضرت إلى مياه الخليج لهذا الغرض. ومؤخراً وفي إجراء غير مسبوق حضر الرئيس الفرنسي قمة الدول الخليجية في الرياض، وألقى كلمة عززت موقف فرنسا لدى هذه الدول ومنحت قيادات عاصفة الحزم مساحات أوسع للمناورة.

فرنسا تعزز مكانتها في المنطقة ومن خلال ذلك تعزز مكانتها في الاتحاد الأوروبي باعتبارها تلعب دوراً قيادياً في إدارة المخاطر على المستوى الدولي وهو ما ينعكس بشكل إيجابي على حجم ومستوى حضور أوروبا في سياسات الشرق الأوسط بعد أن غادرتها بشكل شبه كامل منذ خمسينيات القرن المنصرم.

ويأتي الاهتمام الفرنسي بالعالم العربي وقضاياه متزامناً مع التراجع في مواقف واشنطن وعزوفها عن المزيد من الانشغال بالشأن الشرق أوسطي، وبالتزامن كذلك مع بدء بعض حلفاء الولايات المتحدة التقليديين في منطقة الخليج العربي برسم استراتيجيات جديدة للتقليص من حجم اعتمادهم أمنياً على الولايات المتحدة التي اطمأنوا لفترة طويلة لوجودها سياسياً وعسكرياً. فثقة الخليجيين بالإدارة الأميركية قد أصابها بعض التصدع بسبب عزوفها عن اتخاذ سياسات ومواقف فعالة إزاء قضايا مهمة وحساسة تهدد أمن هذه الدول مما أوجد بعض الفراغ الأمني وهو ما تراه فرنسا وبعض دول المنطقة.

فهناك مخاوف لدى هذه الدول من مآلات السياسات الأميركية المنتهجة إزاء بعض دول المنطقة وإزاء حلفاء هذه الدول على الرغم من التطمينات التي لم يبخل المسؤولون الأميركيون في تقديمها وكان آخرها الدعوة الموجهة لهم للاجتماع بالرئيس باراك أوباما في كامب ديفيد منتصف مايو الجاري لوضع آفاق جديدة للعلاقة بين الولايات المتحدة وهذه الدول في القضايا التي ترتبط بأمنها وأمن منطقة الخليج عموماً.

ولكن هل تتمكن فرنسا من القيام بدور الحليف الاستراتيجي لدول الخليج؟ البعض يضع الكثير من علامات الاستفهام حول ذلك لأن مقارنة حجم فرنسا العسكري والاقتصادي والسياسي والدبلوماسي بحجم الولايات المتحدة يبدو عبثياً لأن فرنسا وفق هذه المحاور لا تشكل منافساً حقيقياً للولايات المتحدة.

لا شك أن هناك متغيرات عديدة تلعب دورها في هذا الشأن لعل أبرزها هو ما توصلت إليه القيادات الخليجية من قناعات نذكر في هذا الصدد ما صرح به وزير الخارجية السعودي الجديد عادل الجبير لرويترز «إن فرنسا هي حليف تاريخي وشريك تجاري أثبت للخليج أن بالإمكان الاعتماد عليه».

فرنسا من ناحيتها تسعى لتطوير علاقاتها الجيدة مع دول الخليج إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية الطويلة الأمد لأن في ذلك ضمان لمصالح كثيرة ومهمة لديها.

فقاعدتها الكبرى في جيبوتي المشرفة على خليج عدن والمطلة على مضيق باب المندب والقاعدة الأخرى التي حصلت عليها في الخليج تجعلها شريكة فعالة في قضايا أمنية تتعلق بهذه المنطقة وممراتها المائية.

كما أن فرنسا تشارك إلى حد كبير دول المنطقة قلقها بشأن البرنامج النووي الإيراني وتشاركها الرؤية فيما يتعلق بالموقف من النظام السوري وفي هذين المحورين تقف الولايات المتحدة موقفاً مقلقاً لدول الخليج.

من جهة أخرى تعتبر فرنسا من أبرز الدول المصدرة للسلاح في العالم فقد تجاوزت صادراتها منه لعام 2014 تسعة مليارات دولار ومن المتوقع أن تتجاوز هذا الرقم في العام الحالي. إذ إن سمعة السلاح الفرنسي جيدة خاصة في مجال صناعة الطائرات الحربية، فالمقاتلة رافال بدأت تلقى رواجاً في أسواق السلاح العربية.

كما أن فرنسا من أبرز الدول في الصناعات النووية وتجهيز المفاعلات المنتجة للطاقة الكهربائية، حيث دخلت في اتفاقيات مع أكثر من دولة خليجية في هذا المضمار. من المستبعد أن تتخلى الولايات المتحدة عن دورها الضامن لأمن الخليج في المستقبل المنظور وذلك لإن المرتكز الأساسي لأية دولة في رسم استراتيجياتها هو أمنها القومي، فعلاقاتها الخارجية تُرسم وفق صيغ تخدم هذا الأمن.

ومن هذا المنظور تبقى منطقة الخليج العربي ذات أهمية إستراتيجية للولايات المتحدة وأوروبا طالما بقي النفط المصدر الرئيس للطاقة في العالم على الرغم من التوقعات بتضاؤل حاجة الولايات المتحدة لنفط الخليج بعد أن أصبح النفط الصخري الغنية في مصادره اقتصادياً في كلفة إنتاجه. إلا أن من حق دول الخليج أن تنظر لما هو أبعد من ذلك، لمرحلة ما بعد النفط وهو ما بدأت تعمل على مقاربته.

Email