«ديوي يهزم ترومان» من جديد!

ت + ت - الحجم الطبيعي

في عام 1948، لم تنتظر صحيفة شيكاغو تريبيون ظهور النتائج الفعلية للانتخابات الرئاسية، وأرسلت للمطبعة موضوعاتها، بناء على استطلاعات للرأي سبقت الاقتراع العام، فجاء عنوانها الرئيسي بخطوط عريضة ليقول ان توماس «ديوي يهزم ترومان». لكن ما حدث في الليلة السابقة كان العكس، فما كان من هاري ترومان الذي فاز إلا أن أمسك بالصحيفة والتقطت له العدسات عشرات الصور مع العنوان المخالف للحقيقة، فصارت القصة كلها في الذاكرة لعقود طويلة تذكر الناس في كل مكان بالعالم بأن استطلاعات الرأي قد تخطئ بشكل صارخ. ومن يومها صارت الصحف أكثر حذراً من شيكاغو تريبيون.

ورغم التقدم المذهل الذي حققته استطلاعات الرأي منذ ذلك التاريخ حتى أنها صارت علماً مستقلاً، وباتت أكثر دقة بكثير، فقد شهد العالم مرتين، في العام الحالي وحده، شيئاً من قبيل «ديوي يهزم ترومان» وإن بدرجة مختلفة. فمنذ أيام، وبعد أن ظلت كل استطلاعات الرأي تقول لنا إن حزبي المحافظين والعمال البريطانيين في تنافس شرس وأن الفارق بينهما ضئيل للغاية، إذا بحزب المحافظين يحقق فوزاً مريحاً يمكّنه من تشكيل الحكومة دون ائتلافات. وقبل شهرين حدث الشيء نفسه في إسرائيل.

فبعد أن ظلت استطلاعات الرأي تقول ان نتانياهو معرض للهزيمة، فاز الرجل بفارق واضح. والمفارقة هي أن حزبي المحافظين والليكود بالذات ليسا غريبين عن تلك التقديرات الخاطئة. ففي 1992، حدث الشيء نفسه مع حزب المحافظين البريطاني، إذ تقول الغارديان إن كل استطلاعات الرأي وقتها، باستثناء مؤسسة غالوب، لم تعكس الواقع على الأرض.

أما الليكود، بل ونتانياهو شخصياً، فقد عاش التجربة نفسها عام 1996 حين فشلت استطلاعات الرأي في التنبؤ بهزيمة شمعون بيريز. لكن حتى مؤسسة غالوب العريقة، وقعت في الخطأ نفسه في انتخابات الرئاسة الأميركية عام 2012 حين اعتبرت عشية الانتخابات أن رومني يتفوق على أوباما بفارق 1 % وما هي إلا ساعات حتى فاز أوباما بفارق أربع نقاط!

وفهم الأسباب الكامنة وراء عدم دقة الاستطلاعات، خصوصاً في الانتخابات العامة، لا يعني التقليل من قيمتها وأهميتها كما سيتضح حالاً. فبعض الأسباب تتعلق باستطلاعات الرأي نفسها، بينما يعود بعضها الآخر للمستطلعة آراؤهم. أما فيما يتعلق باستطلاعات الرأي، فإن المنهجية المتبعة في إجراء الاستطلاع تكون المسؤولة عن دقتها.

فأولاً، وقبل كل شيء، تتوقف دقة أي استطلاع على منهجية اختيار العينة العشوائية. وهناك استطلاعات للرأي تعتمد على اختيار العينة العشوائية من بين الناخبين المسجلين، بينما تعتمد أخرى على ما يعرف «بالناخبين المحتملين»، أي أولئك الذي يرجح، أكثر من غيرهم، أن يذهبوا فعلاً لصناديق الاقتراع. والمشكلات في الاعتماد على «كل» الناخبين المسجلين مصدرها أن الكثيرين منهم لا يعيرون بالا للانتخابات أصلا. أما في حالة الاعتماد على «الناخبين المحتملين»، قد يأتي الخطأ من مصادر عدة، منها طبعا تجاهل قطاع من الناخبين، بدوا غير مبالين ..

ولكنهم قرروا في الساعات الأخيرة التصويت، خصوصا أن استطلاعات الرأي نفسها ذات تأثير على سلوك الناخبين. فهي تؤدي أحيانا لاستنفار المحجمين عن التصويت. فالساخط على حزبه، مثلا، قد يشعر بالخطر على مصالحه إذا ما بدا أن حزبا آخر على وشك الفوز. ويأتي الخطأ أحيانا من أن تحديد هوية «الناخبين المحتملين» يعتمد أساسا على إجابات الناخبين أنفسهم. أضف لذلك مسألة مهمة وهي أن اختيار العينة واستطلاع رأيها يتم غالبا عبر الهاتف، خصوصا الأرضي.

 وهو ما يخلق مشاكل لا حصر لها، منها أن بعض الهواتف الأرضية ليست مسجلة أصلا، ومنها أن الشباب صاروا يعتمدون على الهواتف الجوالة. وحتى المؤسسات التي بدأت تختار جزءا من عينتها العشوائية من أصحاب الهواتف الجوالة فإنها تصطدم بأن الكثيرين لا يردون على الأرقام التي لا يعرفونها.

وكل ما تقدم ينقلنا بوضوح لأسباب عدم الدقة التي ترجع للمستطلعة آراؤهم أنفسهم. فبعض الناس يعتبرون مسألة التصويت مسألة شخصية ولا يحبون مناقشتها. وبعضهم لا يتحرون الصدق حين يسألهم أحد عنها. فهناك البعض الذي يكره أن يبدو مترددا والبعض الذي لا يحب أن يعرف أحد تخلفه عن التصويت، بينما قد يرفض من ينوي التصويت الحديث عن الانتخابات لأن لا وقت لديه، في حين أن بعض المؤسسات، مثل جالوب، تعتبر رفض الحديث معناه لا مبالاة بالانتخابات ومن ثم بالذهاب للتصويت. كل هذا ناهيك عن أن طبيعة السؤال واختيار مفرداته قد يؤدي لإجابات دون أخرى.

كل ما سبق يوضح أن أخطاء التقدير لا تقلل من قيمة الجهد الذي تبذله مؤسسات استطلاع الرأي العام في تطوير نفسها وتقديم خدمة مهمة ليس فقط للشعوب وإنما لصناع القرار أيضاً.

Email