الشق الاجتماعي للتنمية المستدامة

ت + ت - الحجم الطبيعي

تم اعتماد مصطلح «التنمية المستدامة» في قمّة الأرض التي انعقدت في البرازيل عام 1992 كما اعتمد المؤتمرون تعريفها بأنه تلبية احتياجات الجيل الحالي مع الأخذ بالاعتبار حقوق واحتياجات أجيال المستقبل في الحياة الكريمة والعيش الرغيد. وتم تحديد مكوّناتها على أنها تشمل جوانب اقتصادية واجتماعية وبيئية، وهكذا دخلت خطط ومشاريع التنمية البشرية في العمل المؤسّسي بمفهومه الشامل ومن خلال جهود مؤسسات حكومية والقطاع الخاص وهيئات وجمعيات العمل الخيري الإنساني-القطاع الثالث.

وأصبحت استدامة التنمية تلزم التعاطي مع العملية التنموية ببصيرة وحكمة وتخطيط منهجي مدروس من خلال عمل مؤسسي متقن وسليم كي تستمر التنمية البشرية وتتكامل مكوناتها حتى يجني ثمارها البشر جيلاً بعد جيل.

إن «التنمية المستدامة» تشمل في شقها الاقتصادي الابداع والاختراع وتنمية التجارة والأعمال والنمو الاقتصادي والتنافس التجاري والتطوير الصناعي.. الخ. كما يشمل شقها الاجتماعي الرعاية الصحية وتطوير التعليم والترابط الاجتماعي والعدالة الاجتماعية وتوزيع الخدمات – الخ. ويتضمن الجانب البيئي التصدي للتغير المناخي وتوفير المياه الآمنة والتربة الصالحة والحفاظ على جمال الطبيعة والتنوع البيولوجي.. الخ.

من الملاحظ أن كثيراً من الخبراء والمختصين بالتنمية البشرية ركزوا في السابق على «الناتج المحلي الإجمالي» كمؤشر للمعدّلات التنموية في البلدان والمجتمعات. ولا شك أن النمو الاقتصادي قد انتشل الملايين من البشر من براثن الفقر والجوع والمرض وساهم في رفع معدّلات السعادة لدى البشر لكن ذلك لم يكن كافياً لتحقيق التنمية المستدامة. ذلك إن المبادرات الكبيرة التي اعتمدت على التطور الاقتصادي والتحسين البيئي لم تراع بشكل جاد الأهداف الجوهرية للعملية التنموية، وهي تلبية احتياجات الانسان الأساسية ورفع مستوى المعيشة لأجل تطوير أنماط حياة الناس وبالتالي رفع مستوى السعادة الإنسانية. فمثلاً حقّقت كل من الصين والهند ونيجيريا تقدماً اقتصادياً ملحوظاً في العقدين الماضيين لكن هذا التقدم لم يواكبه تطور بارز في حياة الناس ورفاهيتهم.

ومن الشواهد الواضحة أن الاستثمارات الضخمة في الزراعة والثروة الحيوانية أدّت إلى زيادة المعروض الغذائي في منطقة آسيا والمحيط الهادئ ولكن في المقابل لايزال أكثر من 800 مليون جائع يعيشون بيننا وقرابة مليارين من البشر يعانون من سوء التغذية وما يترتب على ذلك من أمراضٍ وأسقام وتكاليف مالية باهظة.

وهنا تبرز قيمة الاهتمام بالشق الاجتماعي عند التخطيط للمشاريع التنموية فالحس الاجتماعي يولد لدى المستثمر الذكي والخبير العاقل الحرص على تطوير نظمٍ غذائية أكثر استجابة لحاجات الناس وبالأخصِ الأمهات والحوامل والأطفال والمسنّين وذوي الإعاقة وبالتالي ستصوّب استراتيجيات التنمية تجاه الاستثمار في انتاج الغذاء المحصّن بالمغذيات الصغرى كالمعادن والأملاح والفيتامينات ولذلك يسعد الفقراء بالغذاء السليم وحياة صحية متزنة ومنتجة وقد قيل من قبل ان العقل السليم في الجسم السليم.

ومن جانب آخر أدى غياب المسؤولية المجتمعة في تنفيذ المشاريع التنموية إلى التأثير سلباً على استدامتها. فقد رأينا كيف أن التركيز على الازدهار الاقتصادي حرك رؤوس أموال كثيرة تجاه الاستثمار غير المدروس إلى استنزاف الموارد الطبيعية وهدر المياه الصالحة وإفساد التربة والقضاء على مساحات شاسعة من الغابات وأضرار كثيرة لحقت بالثروة السمكية في الأنهار والبحار والمحيطات.

لأجل ذلك طور معهد ما ساتشوستس للتكنولوجيا مقياساً تنموياً يختص بالشق الاجتماعي للتنمية المستدامة هو «مؤشر التقدم الاجتماعي»، وساعد هذا المقياس على تحديد معايير تنموية كانت غائبة حتى عهدٍ قريب في تقييم مبادرات ومشاريع التنمية البشرية. يضم هذا المقياس التنموي 52 مؤشراً للأداء الاجتماعي ويشمل مدى كفاية الحاجات الأساسية للأفراد، والرعاية الصحية، والتعليم المتقدم، وحرية الفرد ومؤشرات اجتماعية أخرى فهو بالتالي يساعد قادة الدول والمجتمعات المدنية إلى توجيه أو إعادة توجيه استراتيجياتها في التنمية الشاملة.

ويؤكد الخبير التنموي البروفيسور مايكل رورثر- الاستاذ في جامعة هارفرد ـ أن مؤشر التقدم الاجتماعي أصبح مكمّلاً لمؤشر الناتج المحلي الإجمالي، حيث انهما مؤشران متكاملان ويساعدان في دفع مشاريع التنمية المستدامة إلى الأمام.

تجدر الإشارة إلى ان دولة الإمارات احتلت المرتبة الأولى عربياً و39 عالمياً ــ بين 133 دولة ــ من ناحية التقدم الاجتماعي على تصنيف المؤشر المذكور، بحسب ما أعلن عنه أبريل الماضي، كما حقّقت الدولة المركز الأول عالمياً كأكبر مانح للمساعدات التنموية وذلك للعام الثاني على التوالي بحسب التقرير الأخير لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنموي والراصد لطبيعة هذه المساعدات ومكوّناتها يستخلص بأنه إلى جانب الدعم الإنساني فإن جزءاً كبيراً منها هي مبادرات ومشاريع إنمائية تدعم مسيرة جهود التنمية المستدامة للدول والمجتمعات المستفيدة.

كما يلاحظ الاعتناء الخاص بالشق الاجتماعي في الجانب التنموي فبحسب تقارير المساعدات الخارجية للدولة في الأعوام الماضية فقد تضمنت البنى التحتية والتطور الحضري ودعم التعليم والخدمات الصحية وتعزيز دور المرأة وحماية الطفل .. الخ. كما يلاحظ ان أكثر من 90 % من هذه المشاريع والمبادرات هي مساعدات تنموية غير مستردة مما يعزز أهمية الدور الإماراتي في جهود التنمية المستدامة ويؤكد تميز هذا الدور وتفوقه دولياً.

 

Email