«تاء مربوطة».. غيّرت مصير أمة!

ت + ت - الحجم الطبيعي

عندما يكون الحديث عن وضع النقاط على الحروف سرعان ما ينصرف تفكير الكثيرين نحو المسألة الرمزية للمعنى في حتمية تحديد المواقف وحسم الأمور بشكل لا يحتمل اللبس أو التأويل، تجنباً لمشكلات محتملة من جراء الغموض وعدم الوضوح، وبرغم ذلك تظل للمعنى الحرفي اللامجازي أهميته القصوى عند استخدام التعبير ذاته.

فالنقاط على الحروف ليست مسألة جمالية، وإنما ضرورة وظيفية للتفرقة بين الكلمات المتشابهة، وتأتي تلك الضرورة تحت مظلة أوسع من «علم الصياغة والمصطلحات»، وربما كتب عديد من الباحثين دراسات متنوعة في هذا المجال لتبيان الفروق الجوهرية والمؤثرة عند استخدام النقاط والحروف والكلمات.

ولكن لا مانع من الإشارة إلى بعض النماذج وصولاً إلى الهدف النهائي لهذه السطور، فقبل سنوات قليلة عقدت ندوة في منتدى دبي الإعلامي السنوي بحضور ألمع نجوم الصحافة والإعلام في عالمنا العربي، وكان تركيزها على محور حديثنا تطبيقاً على الحالة الفلسطينية والخلاف بين القنوات الفضائية على استخدام مصطلحات ذات مدلولات خاصة سياسية أو غير سياسية.

كان الاستقطاب حاداً في وصف العمليات الفلسطينية ضد الاحتلال، هل هي «استشهادية» أم «انتحارية» أم «فدائية» وكفى؟ وهل الذين يسقطون في الاعتداءات الصهيونية «ضحايا» أم «قتلى» أم «شهداء»؟

ولم يكن الحوار بالقطع حول مجرّد استخدام كلمة، ولكن كانت له أبعاده السياسية وربما الدينية. أما في سياق استخدام التعبيرات الفضفاضة أو غير المحكمة التي من شأنها أن تحدث لبساً عن قصد أو بالمصادفة، فلن نجد أفضل من القرار الدولي الشهير رقم 242 الصادر عن مجلس الأمن الدولي بعد نهاية حرب يونيو 1967، وصاغه أحد أشهر الدبلوماسيين البريطانيين اللورد كارادون.

وكان من ضمن نصوصه الرامية لتسوية مشكلة الشرق الأوسط: انسحاب إسرائيل من «أراضٍ» احتلت في تلك الحرب.

ولأن القرار لم يكن حاسماً، فقد فسر العرب كلمة «أراضٍ» على أنها كل الأراضي المحتلة، بينما فسرت إسرائيل الكلمة ذاتها على أنها بعض الأراضي المحتلة، وهو تفسير انتقائي بالتأكيد، وغالباً كان مقصوداً من صانع القرار لأهداف سياسية غير بريئة.

ولا شك في أن هذه الصياغة الخبيثة كانت من ضمن أشياء أخرى تعانيها المنطقة العربية حتى يومنا هذا، ولكنها تعكس مجدداً أهمية وضع النقاط على الحروف بالمعنى الحرفي، خاصة في الأشياء المصيرية للأمم والشعوب، ولعل الذاكرة تستعيد في هذا المقام واقعة شهيرة وعميقة الدلالة للرئيس المصري الراحل أنور السادات، لأهميتها.

ما حدث ببساطة أنه تم شطب «تاء مربوطة» دستورية! فعندما تولى السادات الحكم عام 1970 بعد وفاة الرئيس عبد الناصر وضع لمصر دستورها الدائم عام 1971، ونص على أنه: يتم انتخاب الرئيس لمدة ست سنوات، ويجوز انتخابه «لمدة أخرى».

ولكن قبيل اغتيال السادات عام 1981 وتقريباً قبل عام من انتهاء ولايته الثانية، أجرى تعديلاً دستورياً فريداً من نوعه، تم خلاله تغيير حرف واحد في الدستور بكامله.

التعديل كان تغيير كلمة «مدة» إلى «مدد» أخرى، وبذلك تم شطب «التاء المربوطة» واستبدال حرف «الدال» بها. لم تكن المسألة مجرد تغيير حرف بآخر، بل ترتب على ذلك التعديل تغيير مصير أمة وسقوط مفاهيم وقيم سياسية عديدة، على رأسها الديمقراطية وتداول السلطة.

ولأن عقارب الساعة لا تعود إلى الوراء ولا مجال للأسئلة الافتراضية في عالم السياسة، لا بد من تأمل الحالة السياسية المتعثرة في مصر نتيجة التخبط في صياغة قوانين الانتخابات التشريعية، وهي مرتبطة بالتأكيد بالحالة المزمنة للتلاعب بالقوانين والدساتير التي تغير بالفعل من مصير الأمم حتى ولو من خلال حرف واحد، ولنتأمل بدقة تبعات ونتائج شطب «التاء المربوطة» الدستورية.

Email